حَدِيثُنَا اليَومَ عَن فَضَائِلِ يَومِ عَرَفَة، وَهُوَ اليَومُ التَّاسِعُ مِن شَهرِ ذِي الحِجَّة، وَهُوَ أَحَدُ الأَيَّامِ العَشرِ التِي أَقسَمَ اللهُ بِهَا بِقَولِه: )وَالفَجرِ وَلَيَالٍ عَشر( ذَلِكَ اليَومُ العَظِيمُ الْمُبَارَك، الذِي فَضَّلَهُ اللهُ عَلَى غَيرِهِ مِنَ الأَيَّام، فَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ : (أَفضَلُ الأَيَّامِ يَومُ عَرَفَةَ) يَومٌ يَحتَشِدُ الحُجَّاجُ فِيهِ عَلَى أَرضِ عَرَفَات، وَقَد تَجَرَّدُوا مِن كُلِّ مَظَاهِرِ شَهَوَاتِ الدُّنيَا، وَانعَتَقُوا مِن سُلطَانِ الأَهوَاءِ وَرَغَبَاتِ النَّفس، وَأَظهَرُوا الخُضُوعَ وَالتَّذَلُّلَ بَينَ يَدَي رَبِّهِم، وَأَقبَلُوا بِقُلُوبِهِم وَجَوَارِحِهِم يَدعُونَهُ تَضَرُّعَاً وَخُفيَة، وَيُنَاجُونَهُ بِأَلسِنَتِهِم وَقُلُوبِهِم، وَكَأَنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِن ذَرَّاتِ أَبدَانِهِم، وَكُلَّ خَفقَتٍ مِن خَفَقَاتِ قُلُوبِهِم، وَكُلَّ دَمعَةٍ تَسِيلُ مِن دُمُوعِهِم، قَد أَصبَحَت لِسَانَاً يَنطِقُ وَيَدعُو، فَتَتَبَدَّلُ أَحوَالُ العِبَادِ فِي ذَلِكَ الْمَوقِفِ العَظِيم، وَتَتَدَفَّقُ فِيهِ أَنوَارُ الهِدَايَة، وَتَتَنَزَّلُ فِيهِ شَآبِيبُ الرَّحمَة، وَيَزخَرُ بِالعَفوِ وَالرِّضوَان، وَيَفِيضُ غَيثَاً مِن الوَاحِدِ الدَّيَّان، الذِي يَنظُرُ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤمِنِين، وَهُم يَقِفُونَ فِي عَرَفَات، مُتَجَرِّدِينَ مُتَذَلِّلِينَ مُتَوَاضِعِين، لا يُبَالُونَ بِشِدَّةِ الحَرِّ، وَلا يَكتَرِثُونَ بِوَعثَاءِ الوُقُوف، كِبَارَاً وَصِغَارَاً، نِسَاءً وَرِجَالاً، ضُعَفَاءَ وَأَقوِيَاء، شُيُوخَاً وَشَبَابَاً، الجَمِيعُ فِي صَعِيدٍ وَاحِد، وَقَفُوا يَسأَلُونَ رَبَّهُمُ الوَاحِد، وَقَد تَصَاعَدَت أَصوَاتُهُم، وَارتَفَعَ بُكَاؤُهُم، وَزَادَ نَحِيبُهُم، وَتَسَامَى دُعَاؤُهُم، فَيَتَجَلَّى اللهُ تَعَالى عَلَيهِم، بِرَحمَتِهِ وَعَفوِهِ وَمَغفِرَتِهِ وَرِضوَانِه، فَيَنظُرُ اللهُ تَعَالى إِلَيهِم، وَيَسمَعُ أَصوَاتَهُم وَبُكَاءَهُم، فَيُخَاطِبُ مَلَائِكَتَهُ فَيَقُول: انظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاؤُونِي شُعثَاً عُبرَاً، اشهَدُوا أَنِّي قَد غَفَرتُ لَهُم.