الخطابة الدينية » منابر دمشق

(كيف أرضي أَبَوَيَّ؟)

الدكتور الشيخ محمد خير الشعال


(كيف أرضي أَبَوَيَّ؟)

قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

وقال سبحانه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83]. قال ابن كثير: هم الشباب.

أخرج الحاكم والبيهقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل

شغلك، وحياتك قبل موتك».

هذه هي الخطبة الثالثة في سلسلة (هموم الشباب)

عنوان الخطبة: كيف أرضي أَبَوَيَّ؟

أيها الإخوة:

واحد من هموم الشاب المؤمن خاصة والإنسانِ العاقل عامة سعيُه لنيل رضا والديه؛  يعلم أن لهما الفضل عليه بعد الله تعالى في وجوده في هذه الحياة، ويعلم أن الله تعالى أوصاه بهما، وتدفعه فطرته السليمة إلى برهما، لكنه يجد نفسه مقصراً معهما حيناً، ومخالفاً أمرهما حيناً، ومتجاوزا آراءهما حيناً ثالثاً.

يحزنه - حين يصفو- أن لا يبرهما، ويبكيه - حين يخلو- بكاؤهما، ويتألم - حين يسمو- من سوقه الألمَ لهما، ويسأل: كيف أرضي أبوي؟

ولإن قلت لكم – أيها الأبناء - يوماً من على هذا المنبر إنه لا يمر بي شهر أو

شهران إلا ويطلب مني أبٌ مجروح أو أمٌ كسيرة، الحديث مجدداً عن البر؛ فإني أقول لكم اليوم - أيها الآباء والأمهات- إنه لا يمر بي شهران أو ثلاثة إلا ويأتيني شاب

حزين لأن أمه لا ترضى وقد قدّم لها وقدّم، أو ترسل فتاة رسالة تشكو جفاء والدها

مع سعيها الكبير لإرضائه، وكل من الابنين يسأل كيف أرضي أبوي؟!

كان آخرَ هؤلاء شابٌ عقد برضا والدته على فتاة، وبعد العقد بأشهر، ولحاجة في

نفس الأم، طلبت إليه أن يطلق زوجته.!

 فما زال يسترضيها ويتودد لها ويتدخل عليها أن تغير رأيها وهي مصرة على طلاقها، ومع أنه لا يجد من زوجته ما يدعوه لطلاقها لكنه آثر أمرَ أمه فطلقها.

 بعد تطليقها بأسبوعين أو أكثر قالت له الأم لا بأس عليك إن أردت إعادتها، وخطبها الشاب من جديد ورضيت ورضي أهلها فعقد عليها.

 بالأمس عادت أمه لتقول: لابد من أن تطلقها وإلا غضبت عليك.!

 وعاد الشاب يفكر هل يفعل؟! هل في عدم تطليقه زوجتَه المظلومةَ إغضابُ أمه؟!

هل يغضب الله تعالى عليّ إن لم أطلقها، أريد رضى أمي ولا أريد ظلم زوجتي، كيف أرضي أمي؟ - إن حال الشاب المؤمن أنه يهتم لرضا والديه، ولو لم يقنعه أمرهما-.

وهاهنا مسألة أريد بيانَها – أيها الإخوة والأخوات -  وهي حكم طاعة الوالدين أو أحدِهما في طلبهما تطليق الابن زوجته:

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية تحت هذا العنوان: روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها، فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك).

وسأل رجل الإمام أحمد فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي. قال: لا تطلقها. قال: أليس عمر رضي الله عنه أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثلَ عمر رضي الله عنه.

يعني لا تطلقها بأمره حتى يصير مثل عمر في تحريه الحق والعدل وعدم اتباع هواه

في مثل هذا الأمر.

وقال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته. قال: لا يحل له أن يطلقها. بل عليه أن يبرها. وليس تطليق امرأته من برها.

قال الدكتور الزحيلي في موسوعته الفقهية: وصرح الحنابلة أنه لا يجب على الرجل طاعة أبويه ولو عدلين في طلاق أو منع من تزويج.

فليس من بر الوالدين تطليقُ الرجلِ زوجتَه الصالحة؛ ولو أمره بذلك والداه، والله أعلم.

أيها الشباب:

في جوابي على سؤالكم (كيف أرضي أبويَّ؟) أقول: تستطيعون ذلك بأمرين: أحدهما معرفي، وثانيهما سلوكي.

ويعينكم على ذلك أمران: لزومُ مجالسِ العلم، وصحبة المرضيين.

أما المعرفي: فبمعرفة حكمِ بر الوالدين في الشريعة الإسلامية وأهميتِه وحكمِ

عقوقهما وخطورته.

أما حكم بر الوالدين وأهميتُه: فبر الوالدين فرض عين وهو من أفضل القربات؛ فبر الوالدين سبب رضا الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد». [الترمذي].

وبر الوالدين أوسع باب لدخول الجنة: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأَضِعْ ذلك الباب أو احفظه». [الترمذي].

وبر الوالدين سبب زيادة العمر والرزق ففي الحديث: «مَن سَرَّه أن يُمدَّ له في عمره، ويُزاد له في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه» [أحمد].

 وبر الوالدين سببٌ لبر الأبناء: «بروا آباءكم تبرَّكم أبناؤكم» [الطبراني في الأوسط].

 وبر الوالدين سبب لتوبة الله عليك: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

 يا رسول الله، إني أصبتُ ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك أم؟» قال: لا، قال: «هل لك من خالة؟» قال: نعم، قال: «فبرها». وبر الوالدين سبب التوفيق في الحياة.

وأما عقوق الوالدين فحرام وهو من الموبقات الكبائر والعياذ بالله تعالى قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ» [البخاري ومسلم].

وقال صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِالله، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» [البخاري ومسلم].

والعقوق علَّة للَّعن، قال صلى الله عليه وسلم: «... لَعَنَ الله مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ» [أحمد].

ومانع من دخول الجنَّة، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ» [أحمد].

وجعل الله العقوق سبباً لقِصَرِ العمر وقلَّةِ الرِّزق وعقوقِ الأبناء، قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الذُّنُوْبِ يُؤَخِّر اللهُ مَا شَاءَ مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، إِلَّا عُقُوْق الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ اللهَ

تَعَالَى يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ» [الحاكم].

وأما السلوكي: فها أنا أسرد لكم بعضا من سلوكيات العقوق وسلوكيات البر:

 فمن سلوكيات العقوق: إبكاءُ الوالدين، وإدخال الحزن عليهما سواء بالقول أو الفعل. تركُ استئذانهما، وعدم الاعتداد برأيهما. نهرهما وزجرهما برفع الصوت

وذميم القول، وأدنى الإغلاظ (أف). تركُ زيارتهما عمداً وتقصير الواجد في النفقة عليهما قصداً. النظرُ إليهما نظرة المغضب أو نظرة الاتهام. وأن تطيعَ أصحابَك

وتعصيَ والديك.

ومن سلوكيات البر: ذكر الوالدين عند المخاطبة بألفاظ الاحترام. كان بعض الصحابة

إذا حدَّث أمه أو أباه قال: يا سيدي، أو: يا سيدتي.

ومن سلوكيات البر عدم المشي أمام أحد الوالدين، بل بجواره، أو خلفه أدباً وحباً.

رأى سيّدنا أبو هريرة رضي الله عنه رجلين يمشيان، أحدهما أسنّ من الآخر، فقال للصغير: ما يكون لك هذا، قال: أبي، قال: لا تسمِّه باسمه، ولا تمشِ أمامه، و

لا تجلس قبله.

ومن سلوكيات البر: إذا رأيتَ أحد والديك يحمل شيئاً فسارع في حمله وقدِّم له العون.

ومن سلوكيات البر: خفض الصوت ولين القول لهما. وإلقاؤك السَّلام إذا دخلت

عليهما، وتقبيل رأسيهما ويديهما. وألا تبدأ الطعام إن أكلتَ معهما قبلهما إلا إذا أَذِنا

لك. والمسارعة بالتلبية إذا ناداك أحدهما، وإن كنت مشغولاً فاستأذنهما لإنهاء

شغلك، وإن لم يأذنا لك فلا تتذمر.

ومن سلوكيات البر: الدعاء لهما خاصةً في الصّلاة. وإدخال السرور عليهما بكل ما يحبَّانه منك. وألا تُكثِر الطلبات منهما، وأكثر شكرهما لما قاما به لأجلك ولإخوتك.

والزم خدمتهما إذا مرض أحدهما.

ومن سلوكيات البر أن تعتذر إذا أخطأت معهما. وأن تعلم بعد كل ذلك أنك لم تؤد

لهما حقهما.

رأى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانياً يطوف في البيت حاملاً أمه يقول:

إني أنا بعيـرها المـــذلل     إن أذعرت ركابها لم أذعر

ثمّ قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة. [البخاري في الأدب المفرد].

كتب أحد المربين يقول: (كثيراً ما أذهب لتعزية صديق بوالده أو والدته في دار

المتوفى نفسه فأستغرب من رؤية حال البيت !!!

 فالدهان قديم جداً والفرش عتيق وقد تجد بعض زجاج النوافذ مكسوراً وبلاطَ

الأرضيات بحالة سيئة رغم أن البيت قد يكون في أحد أحياء المدينة الراقية، و

لكن كبر الوالدين بالسن وبُعد الأولاد عنهم وعدم اهتمامهم بهم يفعل بهم العجائب.

 فعندما يوسع الله عليك؛ اشتر لوالدتك فراشاً جديداً جميلاً تريَّح جنبها الكريم عليه، وصلِّح لها الحمَّام والمطبخ وحدِّثهما، واطل لها جدران بيتها أيضاً.

تعهَّد ملابسها البيتية والخارجية وحذاءها الشريف، وراقب سجادتها، وأصلِّح

خزانتها وسريرها.

ولو بسط لك ربنا في رزقك أكثر؛ اجبر خاطرها بقطعة ذهبية مناسبة.

وأتحف والدك الجليل بنظارة جديدة، واشتر كل فترة له أشياء يحبها، وركز على

الأمور التي قد يخجل من أن يطلبها، أما دواؤُه فأولى من الماء الذي تشرب.

إياك أن تتصور أنهم شبعوا من الحياة وأكلوا كل شيء، وشربوا كل شيء، وأنك وأولادك أولى بالحياة منهم. بل هم أولى بكل جميل وجديد في الحياة، بل هم الحياة،

وإذا أردت أن تتاكد فاسأل الذين فقدوهم. لقد قال أحدهم: فقدت أنسي بالحياة عندما فقدت أمي.

غسَّلتُ الجمعة الماضية والد صديقٍ لي -رحمه الله وطيَّب ثراه - ورأيت أبناءه

 يقبِّلون قدميه ويمسحون بها وجوههم ، فقلت في نفسي: ما أحسن هذا لو كان في

حياة الوالدين.

لم يزل يبكي أحدهم بكاءً مريرًا، يقول لي: خرج أبي من الدنيا ولم يشبع من أكلة

كان يحبها كثيراً وما كان يطلبها، وأنا لم أكن بخيلاً عليه أبداً، لكنني كنت مشغولاً

عنه بشؤني الحياتية.

وحدَّث أحدهم أنه دخل على أمه في ليلةٍ باردةٍ، فقالت له -وهي نائمةٌ-: الحمد لله

أنك أتيت يا بني؛ أنا بردانة من أول نومي وليس لي قوة تعينني على شد الغطاء

على جسمي؛ فبكى بكاءً شديدًا حينها.

احفظ والديك بلطفك وعطفك قبل أن تفارقَهما.

 (كيف أرضي أبويَّ؟)

 تستطيع ذلك بأمرين معرفي وسلوكي، ويعينك على ذلك أمران لزومُ مجالسِ العلم وصحبة المرضيين.

وبعد أيها الشاب المؤمن:

هذا واحد من همومك كيف أرضي أبوي، وهذا جوابي لك عليه، وأسأل الله أن يجعلنا جميعاً مع الأبرار في هذه الدار وتلك الدار.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم». [الترمذي].

والحمد لله رب العالمين

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://www.awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=94&id=5512