الحمد لله رب العالمين ، مبتلي بالفتن والمحن المؤمنين ، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين ، من دلنا على هذا الدين ، وحذرنا من الوقوع في ضلالات المفسدين ، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين . وبعد: فإن ما هو قائمٌ بين الناس مما يقتضي التنازع والتخاصم والتسابُب والتشاتم إنما هو فتنٌ كقطع الليل المظلم ، وإن هذه الدعوات التي تدعو إلى الاقتتال ، كلُّ من أجابها وقع في ذاك التنازع الْمَقيت ، الذي ليس له من عاقبةٍ إلا الفشل وذهاب النصر ، كما في صريح قول الله تعالى: )وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِين * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط(. إن المرحلة التي نمر بها من جملة المراحل التي تحمل أنواعاً من الفِتن الصماء العمياء الدهماء ، ومع ذلك ففيها كما كان فيما قبلها ، ويكون فيما بعدها نورٌ مُضيءٌ لمن أراد أن يستضيء ، مَن استضاء به عَلِمَ كيف يُعامِلُ ربَّه في الشؤون ؛ وفي هذا النور المضيء أسرارُ نَصرِ الله للنبي ، وفيه حصادٌ لكثير من رؤوس الشر والفتنة ، وفيها مع ذلك حِكَمٌ لله تعالى ، وأن المستضيء بهذا النور يَعبر عمرُه على حال حَسَنٍ صالح وعمل مبرور وسعي عند الله مشكور ، فهو رابح وفائز وظافر ، فقد قال رسول الله : (إن بين يدي الساعة فتناً كقطعِ الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، القاعد فيها خيرٌ من القائم ، والقائم فيها خيرٌ من الماشي ، والماشي فيها خيرٌ من الساعي: فكسِّروا قسيِّكم وقطِّعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة ، فإن دُخل على أحد منكم بيته فليكن كخير ابني آدم) وزاد أحمد وأبو داود: (قالوا: فما تأمرنا ؟ قال : كونوا أحلاسَ بُيوتِكم) أَنَجِدُ نبياً أنصح منه ؟ أم نَجِد بياناً أفصح منه ؟ يُبين هذا البيان ويقول: ابتعدوا عن استعمال الأسلحة ، فليس الوقتُ وقتَها ولا المجال مجالها ، وليست مؤديةً إلى خير ، فكسروا قِسيِّكم ، وقطِّعوا أوتاركم ، واضربوا بسيوفكم الحجارة . هذه دعوته وهذا بلاغه ، تبينه أحاديث متعددة ، منها قوله عند ذِكرِ الفِرَقِ والافتراق والتباعد بين الناس: (تكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ، هُم مِن جِلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: (الزم إمامَ المسلمين وجماعتَهم ، فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟ فاعتزل تلك الفرق كلَّها) [رواه البخاري ومسلم وغيرهما] وتتابعت الأحاديث في بيان الواجب في تلك الأحوال ، فيقول للصحابي سهل بن سعد: (كيف بك إذا بقيتَ في حُثالة من الناس قد مرجَت عهودُهم وأماناتُهم ، واختلفوا فصاروا هكذا -وشبك بين أصابعه-؟ قال: الله ورسوله أعلم ، قال: اعمل بما تعرف ودَع ما تُنكر ، وإياك والتلوُّن في دين الله ، وعليك بخاصَّة نفسك ودَع عوامَّهم) [رواه الطبراني] . ومصيبةُ الأمة أن يطلبوا حقيقةَ الدين مِن عند غير النبي محمد ، من أهوائهم ومن عصبيَّاتهم ، ممن اتخذوهم في دين الله مشايخَ على غير بصيرة ، والعياذ بالله تبارك وتعالى ، بل نصَّ أنه في تلك الفتن تُعمر المساجد وهي خاليةٌ من النور والهدى ، ويكون علماء فيها قادة الفتنة وسببها ، وإن كان الدين النصيحة فهو أكرمُ ناصحٍ ينصح أمتَه ، وعلينا أن ننتصح بنُصحِه ، وأن نَخرج عن هذه الوَرَطات التي نجد فيها الاستنادَ واللياذَ بقوى الكفر ، فأين الاعتماد على الله ؟ أيها المؤمنون: ليس الذي يدعو إلى حقيقة ما يُحبه الله من ادعى أنه المخلِّص ، ولا من ادعى أنه المنقِذ ، ولا من ادعى أنه الفاهم ، ولا من ادعى أنه الواعي ، ولكن مَن يمتلئ القلبُ برؤيته وسماعه خشيةً من الله ، وإنابةً إلى الله واستشعاراً لقُرب الأجل والموت والحساب العظيم عند الله ، مَن تورَّع عن الدماء وعن الأعراض وعن الأموال ، وخاف من الله مخافةً ظهرت آثارُها على تعاملِه ، هم الذين يَدلُّون وهم الذين يُرشدون ، هم الذين يَصدقون مع الله ويَصدقون مع خلقِ الله ، جعلنا الله في الصادقين ، وألحَقنا بالصادقين ، وجعلنا في الهداة المهتدين. ضرورة الابتعاد عن أطراف الفتنة: إن الجهاد في سبيل الله على أوضح مجالاته وحالاته لو قام فدخل في النية ذرّةٌ من قصدِ غير الله لضاع صاحبُه ، قال رسول الله: (من غزا وهو ينوي عقالاً فله ما نوى) [رواه أحمد والنسائي والطبراني والحاكم] فكيف إذا كان الأمر ليس بواضح القيام فيه على حقيقةٍ من الدين ولا حقيقةٍ من النور ولا حقيقة من الجهاد في سبيل الله ، إلا ما يدَّعيه أصحاب كلُّ طائفة أنهم مجاهدون ضد طائفة أخرى . إنها الفتن العمياء الصماء ، إنها الفتن المظلمة ، لا تكن فيها طرفاً من الأطراف ، يقضي به الكافر والفاجر غرضَه ، أو يتَّخذه جسراً لينال شيئاً من مُراده ، ولا بلَّغ الله أعداءه مُراداً فينا ولا في المسلمين ، ولا في أحد من أهل القِبلة . فيجب أن يتألم قلبُك أن أصبح المسلمون عُرضةً لأن يُسَيَّروا ويُدبَّروا من قبل قُوى الكفر ليُضعِفوا بعضَهم البعض ، ويقتلوا بعضَهم البعض ، مَن أباح لهم ذلك ؟ مَن زيَّن لهم ذلك ؟ على أي أساس يقيمون بذلك ؟ أهمية القيام المؤمن بخاصَّة نفسه: أيها المؤمنون: خاصَّتكم التي دعاكم إليها صاحبُ الرسالة أقيموها ، وفيها جهادٌ واضح بيِّن لا غبارَ عليه ، بهديِ تربية الأولاد وتربية الأسرة ، والمحافظة عليهم من هذه البرامج المفسدة للعقول والأخلاق ، المفسدة للحال مع الله ، قال رسول الله: (فعليك بخاصَّة نفسك) وشبَّك بين أصابعه ليبين ما يحصل بين الناس ، وفي رواية: (كيف بكم بزمانٍ يوشك أن يأتي يغربل الناس فيه غربلة ، ويبقى حُثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم واختلفوا وكانوا هكذا) قالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك ؟ قال: (تأخذون بما تعرفون ، وتدعون ما تُنكرون ، وتُقبلون على أمرِ خاصَّتكم وتذرون أمرَ عامتكم) [أخرجه الحاكم] تذرون أمرَ عامتِكم من تلك التحزُّبات ، من تلك الأغراض التي تعرِّض الناسَ لسفكِ الدماء وانتهاك الأعراض والحرمات ، والعياذ بالله تبارك وتعالى . كل مَن قال أنه بحركته يريد دفعَ الظلم ، ويا ما أحسنَ دفع الظُّلم ؛ إنا نجد ظُلماً نارُه تشب ، انتهاكات لم تكن قبل أن يتحرك هذا ، وفساد لم يكن قبل أن يتحرك هذا ، ودماءٌ بلا عَدد تُسفَكُ لا كقبل أن يتحرك هذا ، فما هو الدفع للظلم أيها المؤمن ؟ بل ربما صرح من يُصرح ، "ولو يُقتل منا الأعداد الكبيرة" على حساب من ؟ وفي مصلحة من ؟ وعلى أي كتاب ؟ وعلى أي سُنة ؟ وعلى أي منهاج ؟ وبرأي مَن ؟ وهل الآراء حاكمةٌ على النصوص ؟ حاكمة على المسالك التي سلكها الصحابة والتابعون ، وتابعوا التابعين وتابعوهم بإحسان رضي الله عنهم ؟ لقد صلى جماعةٌ من خِيارِ الصحابة خلف الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يَسفك الدماء ظلماً ، أفي دينهم خلل ؟ أفي اعتقادهم باطل ؟ أفي شجاعتهم نقص ؟ هم أشجع الأمة وخيار الأمة وأفاضل الأمة ، ولم يَكونوا ليشتروا بدين الله ثمناً قليلاً . ألا تقبل نصحَ رسولك ؟ من يُغريك أن اشتغالَك بأمر العامة في هذه الفتن هو الشجاعة وهو الدين ، وهو اليقظة وهو التقدم ، وهو الإعداد وهو الاستعداد ، مَن قال لك ذلك ؟ رسول الله r قال غير ذلك ! فَتُصَدِّق مَن ؟ وتمشي وراء مَن ؟.
أيها المؤمنون: أمانة في الأعناق يجب أن تُؤدَّى ، يُرثى حالُ الأمة التي اجتمع عليها عدوُّها كما تجتمع الأكلةُ على قصعتهم من الطعام ، و يتناوشونهم و يتهاوشونهم ويفرِّقون بينهم ، وكل واحد يقول عنهم ما يريد ، كأن الأمرَ تحت دولتهم وفي محلِّ حُكمهم ، شؤون المسلمين كأنها تحت حكمهم وفي أمرهم ، يَتشاورون هُم فِيها ، بل يَصَرِّحُون تصريحاً واضحاً بيِّناً ، ويقول قادتهم: "إنا سنتصرف في الحادثة الفلانية والبلدة الفلانية حسب ما تقتضيه المصلحة العليا لنا" قادتهم يقولون هكذا ، ويبرزونه للناس ، حسب مصالحهم نكون نحن جسوراً لإنفاذهم ، لوصول مصالحهم التي فيها ما يُناقض أمرَ الدين من أصله ، أو يهدف إلى إيذاء المسلمين وضعفهم ، وهم يُصرحون بهذا ونحن نقول لهم أغيثونا ؟ وتفضلوا إلى بلداننا وإلى إخواننا ؟ وقَطِّعُوا الرباط واضربوا البنيان ؟ وهدّموا وسط ديارنا وبلداننا ؟ ما أعظمها مِن فتن ؟ أزال اللهُ عنا هذه المحن ورفعَ الشر عن المسلمين . تعامل المؤمن في هذه المرحلة: يتعامل المؤمن في زمن الفتن بالعمل بالذكر والشكر والتعاون على البر والتقوى ، وأما إذا كان أمامه ما تُنكره القلوب وما ليس بواضح ولا بَيّن فيبتعد عنه ، ومهما كان من العلماء من يقول كذا ومن يقول كذا ، فإنه على يد منسوبين إلى العلم تَكثُر الفتن بإخبار النبي ، بل يَكونوا هُم الأساس فيها والعياذ بالله تبارك وتعالى . وندعوك مع ذلك أن لا تسيء الظنَّ لا بذا ولا بذاك ، وتطوي باطنَك على حُسن ظَنٍّ بعباد الله ، ولكن لا تَزُجَّ بِنَفسِكَ فِيمَا قال ذا ولا فيما قال ذاك ، واعتزل تلك الفرق كلَّها بأمرِ صاحب الرسالة ، اعتزل تلك الفرق المتنازعة المتشابكة المتناحرة المتقاتلة ، فاعتزل تلك الفرق كلها ، عملاً بقول رسول الله (خير لأحدكم أن يصيبه ما يصيبه ولا أن يتبع أحداً من تلك الفرق) فلنتقِ الله ولنهتدِ بهدي المصطفى ، ونسأل الله الهداية لعلمائنا ولأمرائنا ولأغنيائنا ولفقرائنا ولحكوماتنا ولشعوبنا وللأمة في المشرق والمغرب.
أثر الدعوة المحمدية في جمع الشمل: إن دعواتِ التنازع دعواتُ الفشل ودعواتُ الهزيمة ، ولكن دعوة محمد دعوة النجاح ودعوة النصر ، وإنه بالقلوب التي تُصغي لهدي محمد ولندائه في هذه الأمة تستمر نزولُ الرحمات واللطف من الله في الشدائد والملمَّات ، وتأخذ الفتن من تأخذ ، ويأتي بعدها فرجٌ لا ريب فيه ولا شك من الله العلي العظيم القوي ، لقومٍ لا يستندون إلى شرق ولا إلى غرب ، ولا إلى حكومات ولا إلى غيرها ، بل إلى الله يستندون وعليه يعتمدون ، لا تحملهم لذلك عصبية ولا رأي ولا حزبية ولا إرادة سلطة ولا إرادة مال ولا غير ذلك . إن سُنة الله تعالى قد مضت في عباده ، وينصر الله من يشاء ويؤيد من يشاء ، وإن العاقبةَ للمتقين وحدهم ، لا نصيبَ لسواهم فيها مهما خططوا ومهما دبروا ، لكن انتزع من كثير من القلوب الإيمان بالله تعالى ورسوله ، وما قال الله سبحانه ورسوله، إلى الإيمان بالخطط والإيمان بالمخططين وكأنهم الفعَّالون ، وإن الفعَّال لما يريد واحد ، هو يُبدئ ويعيد )وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد( فلنجتمع على الرأفة والرحمة بمَن وقع في الشدائد ووقع في النكبات ، ونأخذ ما نعرف من إنقاذٍ نستطيعه ، من إمدادٍ نستطيعه ، من دعاءٍ نستطيعه ، من دعوةٍ نستطيعها ، من مساعدةٍ بيِّنة واضحة ، ليست طرفاً في النزاع ولا سبباً لتوسيع نطاقه بين العباد والأتباع ، مُستعينين بالله تعالى مُسترحمين له في إخواننا الذين وقعوا في فخِّ تسليطِ الأعداء وتسييرهم لهم في أمورهم ، واتخاذهم جُسوراً يُعبرون عليها . نقول يا رب أنقذ أمةَ محمد ، وإن فيهم من ينطوي عليه الأمر وتنطوي عليه الحيلة ، وإنهم لا شك على نياتهم سوف يُحشرون ، ويكون مآلُهم على حسب النيات ، إلا أنه لا معنى للتمادي بعد ظهور الآيات ، ووضوح الدلائل من خاتم الرسل ، ومع ذلك كله فمن انطوى عليه الأمر فالحال كما قال رسول الله في مَن يُخسَف بأولهم وآخرهم ويُحشرون على نياتهم ، إلا أن طالب الحق لا يَجد شحاً في موارد البيان من القرآن والسنة ، وقد قال (يحمل هذا العلمَ مِن كلِّ خلفٍ عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالِين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) [رواه البيهقي] يصير صافياً نقيّاً كما بلَّغ النبي
وسائل لتحقيق النصر: استنصروا اللهَ بأدبكم مع الله ، وصدقِكم مع الله ، وقيامكم بفرائض الله ، وأدائكم للمندوبات بما استطعم ، وتعاوُنكم على ما يرضي الله في محيط الفرد والأسرة والمجتمعات ، وانتظروا فرجَ الله تعالى للأمة ، ولا تكونوا أطرافاً في هذه النزاعات ، ولا سبباً تجري به خططُ أعداء الله ، واطلبوا الفرج بضراعة واستغاثة بالله جل جلاله ولجوء إليه ، ولا ترتجوا الفرجَ من غيره ، فليست على ظهر الأرض شعوب ولا دول صغُرت أو كبرت قلَّت أو كثُرت مُنقذةً لكم دونَ الله ، فانظروا على من تعتمدون وإلى من تستندون ، واعملوا بما يحب منكم ، خذوا ما تعرفون معرفة واضحة ، ودعوا ما تنكره القلوب ، من كل تَحامُل ومن كل غَيظ ومن كل أذى ، ومن كل انتهاك للحرمات ومن كل سباب وشتم ، اصدقوا مع الله ، وارجوا الله أن يجمع الأمة بعد شتاتها ، وأن يؤلف ذات بينها ، وأن يدفع عنا الشر والزيغ والضلال. اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت ، ومُنَّ علينا بما مننتَ به على رعيلنا الأول ، حيث خاطبتَهم بقولك: )وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم( .
|
||||||||
|