الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2018-04-02 الساعة 08:32:07
حلْقات التربية
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]

قال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج الإمام الترمذي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله وملائِكَتَه وأهْلَ السَّمواتِ والأرضِ حتى النَّملةَ في جُحْرِها، والحيتان في البَحْرِ لَيُصَلُّون على مُعَلِّم الناس الخيرَ»

روى الإمام مسلم عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يبعثْني

مُعْنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً ولكن بعثني مُعَلِّماً مُيَسِّراً» [مسلم].

    عنوان خطبة اليوم: حلْقات التربية

أيها الإخوة:

 أمهات مربيات وآباء مربون وأسر مربية ومعلمون مربون كانت عناوينَ خطب

 ماضية، وتحدثت خطبة الأسبوع المنصرم عن دور المسجد في التربية من خلال

شيوخ التربية، وتتحدث خطبة اليوم عن حلقات التربية، ذلك أن المسجد هو شيخه وللشيوخ إخوان صدق يعينونهم في عملهم الدعوي والتعليمي والتربوي، فيصحبون الجديد من السالكين ويخدمون الضعيف من الوافدين ويعلمون الجاهل من الطالبين ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

 يجتمعون في المسجد حلقاً فهذه حلقة للقرآن وتلك حلقة للفقه وثالثة للذكر ورابعة للحديث النبوي الشريف ...وهكذا.

هذه حلقة للأطباء وثانية للمهندسين وثالثة للقضاة والمحامين وخامسة للحرفيين ...وهكذا

هذه حلقة للناشئة وثانية لليافعين وثالثة لطلاب الجامعة ورابعة للمسنيين ....وهكذا

الحلقة بالتسكين: كلّ شيء استدار كحلقة الحديد والفضّة والذهب، وكذلك هو في

الناس، فالحلقة فيهم هي الجماعة من الناس مستديرون، وتحلّق القوم جلسوا حلقة حلقة، والجمع حِلَق وحلْقات وحَلَق.

فيكون تعريف الحلقة من الناس: القوم الذين يجتمعون متراصين وذلك لاستفادة ما يلقيه معلم الحلقة من العلوم، ويبثه من أحكام الشريعة، وتعليم الأمة ما ينفعهم في الدارين.

والحلقة تضرب مثلا للقوم إذا كانوا مجتمعين مؤتلفين، كلمتهم وأيديهم واحدة لا

يطمع عدوّهم فيهم ولا ينال منهم، ولذا يقال للسلاح والحديد حلقة لمناعته وبأسه ...

وقد بدأت حلقات التربية والتعليم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها

الصحابة بإشراف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد وفي الدور، وانتقلت

من بعدهم إلى التابعين يعقدونها بإشراف الصحابة، ثم عقدها تابعو التابعين بإشراف التابعين، وهكذا تسلسلت الحلقات التربوية والتعليمية حتى تلقيناها نحن عن أشياخنا، ولازالت مساجدنا ومعاهد قرآننا عامرة بها والحمد لله.

أخرج ابن ماجه بإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه

وسلم ذات يوم من بعض حجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين، إحداهما يقرءون

 القرآن ويدعون الله، والأخرى يتعلمون ويعلمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل على خير، هؤلاء يقرءون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلماً» فجلس معهم.

تُرى من كان يعلم ومن كان يُقرِّئ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنها

حلقات التربية.

  أخرج الطبراني بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إني لجالس ذات يوم في عصابة من ضعفاء المهاجرين، ورجل منا يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا، وإن بعضنا لمستتر ببعض من العري وجهد الحال؛ إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه

وسلّم فلما رآه قارئنا أمسك عن القراءة، فجاء وجلس إلينا، فقال بيده، فاستدارت

له حلقة القوم فقال: «ألم تكونوا ترادون حديثا بينكم» قالوا: بلى يا   رسول الله

صاحبنا يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا. قال: «فعودوا في حديثكم» فقال الرجل: يا

رسول الله اقرأ وأنت فينا؟ قال: «نعم». ثم قال: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم»

ترى من كان يعلم ومن كان يقرئ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنها

حلقات التربية

أخرج الإمام مسلم بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال: «خرج

معاويةُ على حَلْقَةٍ في المسجد، فقال: ما أجلسَكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آللهِ

 ما أجلسكم إِلا ذلك؟ قالوا: آللهِ ما أجلسنا غيره، قال: أَما إِني لم أستحْلِفْكم تُهْمَة لكم،

وما كان أَحد بمنزلتي من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أَقلَّ عنه حديثاً مني، وإن

رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حَلْقَةٍ من أصحابه، فقال: ما أَجلسكم؟

 قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمَدُهُ على ما هدانا للإِسلام، ومَنَّ به علينا، قال: آللهِ ما أَجلسكم إِلا ذلك؟ قالوا: آللهِ ما أجلسنا إِلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفْكم تُهمة لكم،

ولكنه أَتاني جبريل، فأخبرني أن الله عز وجل يُباهي بكم الملائكة» .

ترى من كان يعلم ومن كان يقرئ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم في

عهد سيدنا معاوية رضي الله عنه؟ إنها حلقات التربية.

ولعلكم تعلمون أيها الإخوة أنه كان في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة مساجد منها مسجد

قباء ومسجد الفتح ومسجد الفضيخ ومسجد بني خُدرة ومسجد بني ساعدة ومسجد

بني بياضة.... وكان لكل من هذه المساجد إمام معلم كمعاذ بن جبل وأبي بن كعب وغيرهما فإذا أسلم الرجل وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بمسجد حيه

يتعلم أحكام الدين في حلقات التربية.

 وتستمر حلقات التربية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة

رضوان الله عليهم روى الإمام أحمد في مسنده: عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: قَدِمْتُ

 الْمَدِينَةَ، فَرَأَيْتُ حَلْقَةً عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُ، فَقِيلَ لِي: أَبُو هُرَيْرَةَ. قَالَ: فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ لِي: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. فَقَالَ: سَمِعْتُ حِبِّي، أَوْ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ».  

وروى أبو داود الطيالسي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ شَهِدَ عَلَى عَبْدٍ بِشَهَادَةٍ لَيْسَ لَهَا

بِأَهْلٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»

وفي مصنف ابن أبي شيبة دخل حذيفة رضي الله عنه المسجد فمر على قوم يقرئ بعضهم بعضاً فقال: «إن تكونوا على الطريقة لقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن تدعوه فقد ضللتم» قال: ثم جلس إلى حلقة.

وروى الحاكم في المستدرك وصف بعض تلاميذ أبي موسى الأشعري تعليم شيخهم رضي الله عنه لهم فقال: (تعلمنا القرآن في هذا المسجد -يعني مسجد البصرة- وكنا

نجلس حلقاً حلقاً، وكأنما أنظر إليه بين ثوبين أبيضين وعنه أخذت هذه السورة

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، قال: وكانت أول سورة أنزلت على محمد صلّى الله عليه وسلّم).

إنها حلقات التربية في المساجد، وتستمر هذه الحلقات المباركات في عصر التابعين فهذا محمد بن سيرين التابعي الجليل يحدثنا فيما أخرج ابن عبد البر في جامع العلم وفضله يقول: " دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ يَقُصُّ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَفِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمَسْجِدِ حَلْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ يَتَحَدَّثُونَ بِالْفِقْهِ وَيَتَذَاكَرُونَ فَرَكَعْتُ مَا

 بَيْنَ حَلْقَةِ الذِّكْرِ وَحَلْقَةِ الْفِقْهِ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ السُّبْحَةِ قُلْتُ: لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ الْأَسْوَدَ بْنَ سَرِيعٍ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَعَسَى أَنْ تُصِيبَهُمْ إِجَابَةٌ أَوْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَنِي مَعَهُمْ، ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُ الْحَلْقَةَ الَّتِي يَتَذَاكَرُونَ فِيهَا الْفِقْهَ فَتَفَقَّهْتُ مَعَهُمْ لَعَلِّي أَسْمَعُ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا فَأَعْمَلُ بِهَا، 

فَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُ نَفْسِي بِذَلِكَ وَأُسَاوِرُهَا حَتَّى جَاوَزْتُهُمْ فَلَمْ أَجْلِسْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَانْصَرَفْتُ،  فَأَتَانِي آتٍ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي وَقَفْتَ بَيْنَ الْحَلْقَتَيْنِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ:

أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَ الْحَلْقَةَ الَّتِي يَتَذَاكَرُونَ فِيهَا الْفِقْهَ لَوَجِدْتَ جِبْرِيلَ مَعَهُمْ"

إنها حلقات التربية والتعليم في المساجد

أيها الإخوة:

لقد كان المسجد ولايزال بفضل الله دارا للعلم والأدب والأخلاق به تبنى الرجال وتصنع الآمال، أسطواناته وسواريه وجدرانه مسند ظهور العلماء والفقهاء والقراء والمحدثين والمفسرين والمربين يتحلق حولهم الطلاب على مختلف الأعمار والفئات ينهلون من العلوم والمعارف والآداب.

ولاتزال مساجدنا والحمد لله عامرة بحلقات التربية والتعليم ومعاهد قرآننا تغص بالأساتذة والتلاميذ من الذكور والإناث كل مع أبناء جنسه.

وإن المتوقع من كل منا أن يلتحق بحلقة تربوية علمية في مساجد هذه البلدة

المباركة وأن يأخذ بيد أبنائه وبناته ليكونوا من رواد هذه الحلقات؛ ليدعم التربية المنزلية والتربية المدرسية بتربية مسجدية.

ففي حلقات التربية يجدون الأخ في الله يحبهم ويحبونه ليكون معهم في ظل رحمة

الله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجلان تحابَّا في الله، اجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه»

وها هنا يجدون الناصح الأمين الذي إذا ذكروا أعانهم وإذا نسوا ذكرهم، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

وهاهنا يجدون من يسامرونه من غير معصية ويمازحونه من غير ضغينة ويجالسونه من غير مصلحة دنيوية.

إن الأخ في الله زينة وقوة وعون، يشد بعضهم همة بعض، ويقوي بعضهم عزيمة بعض، يتناصحون ويتحاورون ويتعاونون ويرجون محبة الله عندما سمعوه في

الحديث القدسي يقول: «وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين

في والمتباذلين في».

فيا أيها الإخوة:

هذا حديثي لكم عن حلقات التربية، فمهما استطاع أحدكم أن يلزم وأهله وأبناؤه حلقة تربية فإنه منتفع بإذن الله في دينه ودنياه وفي حياته وأخراه.

ومهما استطاع من كان خادماً مشرفاً على حلقة تربوية أن يحفظها ويحافظ عليها و

يبذل المستطاع في خدمتها فليفعل وليذكر أنه امتداد لحلقات سيدنا أبي هريرة ومعاذ

بن جبل وأبي بن كعب وعلي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم.

ومهما استطاعت الأمة أن تدعم مؤسسات صناعة شيوخ التربية وحلقات التربية وأن تعتني بشيوخ التربية وحلقاتها فإنها تحمي حاضرها ومستقبلها.

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1244
تحميل ملفات
فيديو مصور