الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-10-22 الساعة 10:37:32
آداب مهنة المحاسبة
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ إِلَى

عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ

أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».


وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

هذه هي الخطبة السابعة والعشرون في سلسلة (مهنتي: فقهها وآدابها)، ونتابع

اليوم الحديث عن مهنة المحاسبة، ولئن تحدثت الخطبتان الماضيتان عن مسائل

فقهية في هذه المهنة، فإن خطبة اليوم تتحدث عن آداب مهنة المحاسبة.

- حدثت أزمة بنك الاعتماد والتجارة الدولي سنة 1991 والذي كان يضم 79 فرعًا

تنتشر في معظم أنحاء العالم، وكان يراجع حساباته أكبرُ مكاتب المحاسبة والمراجعة

الدولية، وقد توسط في معاملات غير مشروعة ولسنوات عديدة قبل الأزمة، وبالرغم

من ذلك فقد كانت تقارير مراقبي حساباته حتى آخرِ لحظة نظيفةً لم تتضمن أي تحفظ

أو إشارة بخصوص الإفصاح عن معاملاته غير المشروعة، أو عن مجرد شك حول مقدرته على الاستمرار.

- شهد بلد عربي لسنوات طوال مآسي في مؤسسات القطاع العام، وتوالت خسائرها

عامًا بعد عام حتى تآكل رأس المال، وقد كان يتم إعداد قوائمها المالية بالمخالفة

للمبادئ المحاسبية المتعارف عليها محلياً ودوليًّا. ومع ذلك كانت تقارير مراجعة

 الجهاز المركزي للمحاسبات -وهو الجهة الرقابية المنوطة بمهمة مراقبة الحسابات

في ذلك البلد- تصدر سنويًّا دون أية تحفظات بشأن مدى سلامة تطبيق المبادئ

 والسياسات المحاسبية المتعارف عليها، بل كانت التقارير المالية تبرر الخسائر المتوالية بتراكم المخزون وسياسة تسعير المنتجات وغيرها.

- بلغت خسائر أحد المصارف الإسلامية في بلد نفطي في أزمة بنك الاعتماد والتجارة

 200 مليون درهم من مجموع استثمارات قدرها أكثر من 300 مليون درهم، هذا

      على الرغم من أن النظام الأساسي للبنك يمنعه من استثمار الأموال بالفائدة أو الربا المحرم وقد تبين أن البنك يستثمر هذه الأموال منذ سنوات قبل الأزمة، ومع ذلك لم تشر تقارير مراقبي الحسابات إلى ذلك حتى آخر تقرير .

- توصل باحثان بريطانيان سنة 1984 إلى أن 75% من الشركات الفاشلة والتي

أفلست قد حصلت على تقارير مراجعة نظيفة لم يرد بها أي تحفظ بشأن استمراريتها،

 وقد قاما بدراسة عينة عددها 86 شركة فاشلة يقوم بمراجعة حساباتها 31 شركة

منها أكبر تسعة مكاتب مراجعة في بريطانيا.

أيها الإخوة:

أقسم الله تعالى في سورة الشمس أحد عشر يميناً على أن من تجمّل بالأخلاق

 الفاضلة والآداب العالية من المؤمنين سيفوز وينجح، وأن من ترك نفسه للهوى

وحياته للشهوات مبتعدا عن الفضائل والكمالات فمآله الخسارة والسقوط، فقال:

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا *

وَالسَّماء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا*} [الشَّمس:1-10].

أي: أقسم لكم يا عبادي أحد عشر يميناً أنَّ من تخلَّق بالأخلاق الحسنة سينجح ويفوز

ويربح في أعماله الدينية والدنيوية، وأنَّ من خدع النَّاس وغدر بهم وباع دينه بعرض من الدُّنيا قليل سيخيب ويخسر.

ولئن كان القرآن الكريم عامّاً لكلّ المؤمنين فلا ريب أن أصحاب مهنة المحاسبة منهم

معنيون به. ولئن كان من مضى يفصل بين علم الاقتصاد وعلم الأخلاق، ويريد من

 الناس أن تنطلق محققة أرباحاً مادية من صواب أو خطأ، ومن حل أو حرمة، فإن

العالم اليوم وصل إلى ما نادت به أديان السماء عامة والإسلام خاصة بأن الأخلاق

قبل الاقتصاد أنّ فصل علم الأخلاق عن علم الاقتصاد جعل الاقتصاد فقيراً وأن الأخلاق الجيدة تهيء اقتصاداً جيداً.

ومن أجل هذا تحرّكت منظمات مهنية في كل دول العالم تربط بشكل مباشر بين

الأخلاق والمحاسبة، وكتبت دستور الأخلاقيات المهنية للمحاسبة، أو معايير السلوك الأخلاقي للمحاسبين، أو الميثاق الأخلاقي لمهنة المحاسبة، أو آداب وسلوك مهنة

المحاسبة، أو قواعد السلوك المهني للمحاسبة. وكلها تنادي بتحلي العاملين في المحاسبة والمراجعة بالأخلاق الفاضلة.

ونحن المسلمين ندين لله تعالى بأخلاقنا قبل أن تكون الأخلاقيات حالة مهنية نرقى

بها في السلم الوظيفي.

ونحن المسلمين نتقرب إلى الله تعالى بأخلاقنا قبل أن نتقرب بها لأعمالنا، لأننا نعلم

أن أكثر ما يُدْخِلُ النَّاس الجنة؟ «تقوى الله، وحسن الخُلقُ».

ونحن المسلمين تنعكس عبادتنا الشعائرية أخلاقاً فردية واجتماعية نتقرب بها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن نقترب بها من الأرباح المادية والنجاحات الاقتصادية. أخرج الترمذي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً».

فمهما تمسك المحاسب المسلم بأخلاقيات المهنة رقى وسما ديناً ودنياً.

أيها الإخوة المحاسبون:

اطلعت على عدد من الدساتير والمواثيق والمدونات والمعايير والقواعد الأخلاقية لمهنة المحاسبة العالمية والعربية والإسلامية فوجدتها بشكل عام تلتقي عند خمسة مبادئ أخلاقية أساسية وتزيد عليها الدساتير الإسلامية سادساً.

 أما الخمسة المشتركة:

1-  الأمانة والنزاهة بشكل يؤدي إلى استقامة المحاسب في أداء عمله المهني.

 ولستم بحاجة إلى سوق الأدلة الشرعية على فضيلة الأمانة والنزاهة، فكلكم حافظ

لكثير منها، وإن كان العالم المادي بحاجة إلى مبررات وأدلة علمية وعملية لبيان 

فائدة الأمانة والنزاهة وأثرها في المحاسبة.

2- الموضوعية والاستقلال حتى يتحقق للمحاسب العدالة وعدم التحيز.

3- الكفاءة المهنية ومراعاة المعايير الفنية في أثناء عمله.

4-  السرية، بالحفاظ على أسرار العميل وعدم الكشف عنها دون ترخيص صريح

    محدد قانوني أو مهني.

5- المحافظة على كرامة المهنة ورفعتها. إلى جانب السلوك المتزن في علاقته

   بعملائه وزملائه ومساعديه والجمهور عامة.

6- أما المبدأ السادس الذي تفردت به المواثيق الإسلامية فهو المشروعية: ويعني

التزام المحاسب في كل أعماله المهنية والوظيفية بأحكام الشريعة الإسلامية. فلا يدخل في عمل محاسبي لمنشأة غير مشروعة ولا يمارس في أثناء عمله في المؤسسات المشروعة أعمالا تخالف معايير الفقه الإسلامي.

وإنه لا يظهر إسلام المسلم حتى يقيم شرع الله في مكان عمله كما يقيمه في مسجده،

 ولن يكون المحاسب مرضياً عند الله تعالى حتى يأتمر بأمره فيما حلل وحرم في

 مهنته.

روي عن ابن سيرين أنَّ قيِّماً -خادماً- كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، فأخبره

هذا القيِّم عن عنب في أرضه أنَّه لا يصلح زبيباً ولا يصلح أن يباع إلا لمن يعصره

 خمراً، فأمره سيِّدنا سعد ابن أبي وقاص بقلعه فقال: اقلعه وارمه أرضاً، بئس الشَّيخ

أنا إن بعت الخمر.

روى الإمام أحمد في مسنده عن عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سِبَاعٍ، قَالَ:

 اشْتَرَيْتُ نَاقَةً مِنْ دَارِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ بِهَا، أَدْرَكَنَا وَاثِلَةُ وَهُوَ يَجُرُّ

 رِدَاءَهُ، فَقَالَ: يَا عَبَدَ اللهِ، اشْتَرَيْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ بَيَّنَ لَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ:

 وَمَا فِيهَا؟ قَالَ: إِنَّهَا لَسَمِينَةٌ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ، قَالَ: فَقَالَ: أَرَدْتَ بِهَا سَفَرًا، أَمْ أَرَدْتَ بِهَا لَحْمًا؟ قُلْتُ: بَلْ أَرَدْتُ عَلَيْهَا الْحَجَّ، قَالَ: فَإِنَّ بِخُفِّهَا نَقْبًا، قَالَ: فَقَالَ صَاحِبُهَا: أَصْلَحَكَ

 اللهُ، مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا تُفْسِدُ عَلَيَّ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا أَلَّا يُبَيِّنُ مَا فِيهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَلَّا يُبَيِّنُهُ».

إنه ولن يكون المحاسب مرضيا عند الله تعالى حتى يأتمر بأمره فيما حلل وحرم في مهنته.

أيها الإخوة المحاسبون:

أقامكم الله في عمل نبيل لكم به مع أسلافكم علماء المسلمين نسب، فكونوا خير

 خلف لخير سلف، وقد شهد الربع الأخير من القرن العشرين الإعجاز العلمي في

القرآن والسنة، ويشهد الربع الأول من القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه إعجاز الاقتصاد الإسلامي، وأنتم بأعمالكم المنضبطة بالشريعة وبأخلاقكم الإسلامية وبجدكم واجتهادكم تبرزون هذا الإعجاز للعالم.

كونوا كتّاب عدل {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}. واتقنوا عملكم ودققوه

{وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} والزموا التقوى فيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

وجزاكم الله عنا كل خير ويسر لكم أعمالكم ورفع قدركم في الدنيا والآخرة.

هذا بعض ما أردت أن أحدثكم عن مهنة المحاسبة ، واذكروا أن المطلب الرئيس من

 كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم شرعَ الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله

تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1497
تحميل ملفات
فيديو مصور