الخميس 09 شوال 1445 - 18 أبريل 2024 , آخر تحديث : 2024-04-14 09:52:35 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-05-21 الساعة 08:49:05
مهنة التجارة -4-
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

 

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ

أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

هذه هي الخطبة الرابعة عشرة في سلسلة (مهنتي: فقهها وآدابها)

ونتابع اليوم الحديث عن مهنة التجارة -4- ، ولئن تحدثت الخطب الماضية عن مسائل فقهية في مهنة التجارة، فإن خطبة اليوم تتحدث عن: آداب مهنة التجارة.

أيها الإخوة:

وجدتُ الحديث عن آداب مهنة التجارة وعن أخلاق التاجر في المراجع العلمية وفي

التجارب الحياتية عند تجارنا واسعاً، كيف لا وقد قال الأُوَل (سعة الأخلاق كنوز

الأرزاق) و (من ساء خلقه ذلّ نفسه) و(إذا ذهب الحياء حلَّ البلاء) و(المعاملة مع الله) و (المركب الذي لا شيء فيه لله يغرق) و (كلُّ شريكين ثالثهم الله) و (الحرام لا يثمر). ونصوص الشريعة وافرة في إثر الخلق الحسن في سعادة الدارين

سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدْخِلُ النَّاس الجنة؟، قال: «تقوى الله، وحسن الخُلقُ» [الترمذي].

وقال رسول الله: «أَقْرَبِكُمْ مِنِّى مَجْلِساً يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً» [الترمذي].

وقال رسول الله: «إنَّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً» [الترمذي].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكم لا تسَعون النَّاس بأموالكم، وليسَعهم منكم بسط الوجه وحُسن الخلق» [الحاكم].

ومما اطلعت عليه من مراجع متخصصة بأخلاقيات التجارة كتاب "دليل التجار إلى أخلاق الأخيار" ليوسف بن إسماعيل النبهاني، وكتاب "آداب التاجر وشروط التجارة"

لأبي حذيفة إبراهيم محمد، وكتاب "فقه التجارة وآدابها" لمحسن عطوي، وكتاب "أخلاق المسلم في التجارة" لنزار الشيخ، وكتاب "أَخْلَاقِيَّاتُ التَّاجِرِ المُسْلِمِ" لابتهــــــــــاج غبور، وغيرها.

ويسعني في الخطبة أن أعرض عليكم طائفة من آداب مهنة التجارة في أربع زمر:

آداب التاجر تجاه دينه، وآدابه تجاه نفسه وأسرته، وآدابه تجاه المتعاملين معه من زبائن وعمال وشركاء، وآدابه تجاه مجتمعه ووطنه. 

1- أما آداب التاجر تجاه دينه:

فأولها: شكر نعمة الله تعالى عليه بأن جعل رزقه في التجارة فهو رزق حلال و

 رزق عزيز ورزق فيه بركة، وكم ممن ابتلي بالعمل في المحرمات أو العمل فيما

 فيه مهانة، وقد سلم الله التجار من هذا إن انضبطوا بشريعة الله {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ

 فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الحجر آية20].

وثانيها: ذكر اليوم الآخر في كل قول ونية وعمل يمضي نحوه في سوقه التجاري،

 إذ سيسأله الله تعالى يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، قال النبي صلى

 الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لن تَزُولَ قَدَمَا عبدٍ يَومَ القِيَامَةِ حتى يُسأَلَ عن أربعِ

  خِصَالٍ: عَنْ عُمْرِه فيما أَفْنَاهُ؟ وعن شَبَابِهِ فيما أبلاه؟ وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اَكتسبه و

  فيما أَنْفَقَهُ؟ وعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فيه؟».

وثالثها: حمل رسالة الإسلام والدعوة إليه حيثما حل وارتحل، لأن كل مسلم داعية،

 جاء في كتاب "الدَّعوة إلى الإسلام"، لتوماس أرنولد"  وهو أستاذٌ سابقٌ في جامعة

لندن، "إنَّ النَجاح الرَّائع في الدَّعوة إلى الإسلام في جزر الهند الشَّرقية هو الذي

أحرزه التُّجار بنوعٍ خاص الذين كسبوا السَّبيل إلى قلوب الأهالي بتعلُّم لغتهم، و

التَّخلُّق بأخلاق الإسلام، وأخذوا في رفقٍ وتدرُّجٍ ينشرون معارف دينهم"، فبدؤوا يحولون الأشخاص الذين ارتبطوا معهم بعلاقة تجارية إلى الإسلام، وبدل أن يعتزلوا

الأهالي في أنَفةٍ وكبرياء امتزجوا شيئاً فشيئاً مع عامَّة الشَّعب، واستخدموا كلَّ ما يملكون للقيام بأعمال دلالة النَّاس على الله وعلى الإسلام.

 يقول المؤلّف -ص461-: "إنَّ من الظُّروف التي ساعدت على نجاح الدَّعوة إلى

الإسلام أنَّ هذه الدَّعوة كانت إلى حدٍ كبير في أيدي التُّجار، وخاصةً في أفريقيا، حيث

نرى الأجنبيَّ موضع الرِّيبة والشَّك من أهل هذه البلاد، لكن التَّاجر بسبب مهنته

المعروفة التي لا ضرر فيها تضمن له مناعةً من أي إحساس بهذه الرِّيبة، ونرى

خبرته بالنَّاس والأخلاق وحنكته التِّجارية في معاملة النَّاس تنيلانه قبولاً حسناً، ثمَّ

إنَّ الشَّعب الإفريقي الذي كان التَّاجر المسلم يتحمَّل أعباء السَّفر الطَّويل لأجل أن

يصل إليه ثمَّ يرى هذا التَّاجر يطرح مشاغلة الدُّنيوية جانباً ثمَّ يقوم بعمل الدَّعوة إلى

الله، كان يرى هذا الأمر أمراً غامضاً لا يستطيع تفسيره إلا بصدق هذه الدَّعوة وبصدق حاملها".

واليوم وبفضل الله نرى اثرا في الدعوة إلى الله تعالى لتجارنا سواء داخل البلد بدعم

 المشاريع الدعوية أو خارج البلد بتأسيس المعاهد وإنشاء المساجد وتعليم الناس الإسلام في الصين أو أوربا او أمريكا أو غيرها من بلدان العالم.

2- وأما آداب التاجر تجاه نفسه وأسرته

فأولها: أن يعطي نفسه حظها من العبادة والعلم، وأن يعطي أهله حظهم من اللقاء

به وإشرافه عليهم.

وثانيها: أن يعطي نفسه حقها من الراحة والاستجمام، فإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولربك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه.

وثالثها: أن يتعلم الأحكام الشرعية المتعلقة بتجارته، وأن يعلمها أولاده واهله الذين

يعملون معه، ليأخذوا الحلال ويدعوا الحرام والشبهات، فيسلم ويسلمون من عذاب الله، قال رَسُولَ اللَّهِ  صلى الله عليه وعلى آله وسلم  يقول: «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَ

 بَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ، لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ من الناس، فَمَنْ اتقي الْمُشَبَّهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ، كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، ألا وَإِنَّ

لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إِنَّ حِمَى اللَّهِ في أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ» [البخاري].

3- وأما آداب التاجر تجاه المتعاملين معه من زبائن وعمال وشركاء:

 فأولها: أن يصدقهم القول، وأن يأمنوا شروره وبوائقه فالتَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ. فيصدق الزبائن بحقيقة المباع، ويصدق الشركاء في

الأرباح والأتعاب، ويصدق الجميع في المواعيد والعهود ويأمن الجميع غشه وتطفيفه وخيانته. رووا عن محمد بن المنكدر أنه كان له يبيع قطع قماش، بعضها بخمسة، وبعضها بعشرة، فباع غلامه لأعرابي في غيبته قطعة من الخمسيات بعشرة، فلما

عرف ما فعل غلامه، لم يزل يطلب ذلك الأعرابي المشتري حتى وجده، فقال له:

إن الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال يا هذا: قد رضيت، فقال وإن رضيت، فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث خصال: إما أن تأخذ شقة من العشريات بدراهمك، وإما أن نرد عليك خمسة، وإما أن ترد شقتنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فرد عليه خمسة وانصرف الأعرابي، يسأل ويقول: من

هذا التاجر؟! فقيل له: هذا محمد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله، هذا الذي نستسقي

به في البوادي إذا قحطنا.

وثانيها: أن يحترم الكبير ويجبر الفقير ويعطي لكل ذي حق حقه ويتواضع لخلق الله ويرحمهم.

ومن تواضعه استقبال الناس بوجه بشوش واحترامهم، وألا يستخف بهم أو يستهزئ

، وأن يلين بجانبه لهم ويرحمهم.

والتاجر الخلوق يعامل الكبير أباً والصغير ابنا والمساوي أخاً.

وثالثها: أن يصبر على عمله بحيث إذا استحكمت الأزمات وترادفت الضوائق

استمسك التاجر بالصبر والرضا، منتظراً بشارة الله في قرآنه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة آية155].

فيصبر التاجر على قلة المال، وعلى قلة عدد المشترين وعلى سوء أخلاق بعض من يتعامل معهم، وعلى ضغوط العمل والحياة. وكم رأينا من تجارنا الكبار في هذه الأزمة

من صبر على قلة المال بل وعلى الخسائر وبقي داخل البلد لم يغادر أو أبقى منشآته تعمل لمصلحة الآخرين، ولم يكن له في ذلك مصلحة لنفسه.

وكم سمعنا عمن سافروا من تجارنا واجتهدوا في أن يدعموا من بقي من عمال وأصدقاء يبتغون في كل ذلك الأجر والثواب من الله.

والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير وأحب إلى الله من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.

 

4- أما آداب التاجر تجاه مجتمعه ووطنه:

فأولها: المحافظة على سمعة وطنه وأبناء بلده في حله وترحاله، فلا يعمل عملا خارج البلد يسيء لسمعة أبناء بلده، بل يجتهد ما استطاع أن يلتزم أخلاق التجار الكبار ليعطي سمعة حسنة عن تجار بلده.

وثانيها: الالتزام بقوانين وطنه، إذ الوفاء بالعهود مطلب شرعي، وطاعة ولي الأمر واجبة فيما لا يخالف شرع الله.

وثالثها: المساهمة في بناء وطنه ورفعة مجتمعه في الأوقات عامة والأزمات خاصة.

والزكاة والصدقان والمبرات وبذل الجهد لتأسيس المصانع والمتاجر كلها أعمال تساهم في بناء الوطن وعون أبنائه.

أيها الإخوة:

كلما زاد أدب المرء علا وكلما حسن خلقه سما، فأحبه الله وأحبه الناس. وهذه بعض الإجابات على مسائلكم الفقهية المتعلقة بمهنة التجارة وبعض آداب هذه المهنة النبيلة، سمح بهما الوقت.

فيا أيها التجار:

يجري الله على أيديكم للبلاد والعباد تسوقون لنا خيرا وتعمرون أرض الله بأرزاق الله، وإن منكم من أتيح له السفر في هذه الأزمة إلى أرقى بلدان العالم فآثر البقاء لخدمة

أبناء بلده تقربا إلى ربه، فتقبل الله منكم وأثابكم الخير.

واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم شرعَ الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1602
تحميل ملفات
فيديو مصور