الخطابة الدينية » منابر دمشق

كيف أترك المعصية؟

الدكتور الشيخ محمد خير الشعال


كيف أترك المعصية؟

قال الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

وقال سبحانه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ

أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:٨٣]. قال ابن كثير: هم الشباب.

أخرج الحاكم والبيهقي عن رسول الله r أنه قال: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك

قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».

هذه هي الخطبة الثانية في سلسلة (هموم الشباب)

عنوان الخطبة: كيف أترك المعصية؟

أيها الإخوة:

واحدٌ من هموم الشاب المؤمن خاصة والإنسان المسلم عامة سعيه لترك المعصية؛

يعلم أنه بشر يخطئ حيناً ويقصّر حيناً ويخالف أمر خالقه عن ضعف منه حينا آخر.

تؤلمه معاصيه وتوجعه مخالفاته ويزعجه تقصيره، ويهتم ويحزن ويسأل: كيف

أترك المعصية؟

ومن على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبَشِّر كلَّ شابٍ هذه حاله وكلَّ امرئِ

 هذا ديدنُه أنه على خير كبير، وأنه ذاهب بعون الله نحو ترك كل معصية أهمته؛ ذلك لأن رسول الله r يقول: «إذا سرتك حسنتُك وساءتك سيئتُك فأنت مؤمن» [رواه أحمد والحاكم].

فهنيئاً لمن آلمه ذنبه وأهمته معصيته وأوجعته مخالفته.

وإنّ المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى

ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال له: هكذا فطار.

وهذا الاهتمام للمعصية والذنب كان حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فكم من مرةٍ روت لنا كتب الحديث خبر صحابي جليل جاء إلى رسول الله صلى الله

عليه وسلم متألماً خائفاً يقول: هلكت يا رسول الله، فيسأله النبي صلى الله عن شأنه فيقول إنه فعل الذنب الفلاني.

فمن ذلك ما رواه الموطأ عن ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، قلت: يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال: «لم»؟ قال: نهانا الله أن نحب أن نُحْمَد بما لم نفعل، وأنا امرؤ أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأنا امرؤ أحب الجَمَال، ونهانا الله أن نرفع

أصواتنا فوق صوتك، وأنا رجل جهير الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ثابت، أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة»

فأن تهتم للمعصية أيها الشاب وأن يكون واحد من همومك أيها الأخ كيف تتخلص

من المعصية فهذه بشارة خير لك بإذن الله.

أرسل شاب لأحد الشيوخ يوماً رسالة يقول فيها: ما تقول السادة العلماء في رجل

ابتُلي ببلية من المعاصي وعلِم إن استمرت به أفسدَت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكلِّ طريق فما يزداد إلا توقداً وشدَّة، فما الحيلة في دفعها، وما

الطَّريق لكشفها، ورحم الله من أعان مبتلى، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه. أفتونا مأجورين.

فما كان من الشيخ إلا أن سطّر جوابه كتاباً في خمسين وثلاثمائة ورقة، وهو كتاب

نافع اسمه "الدَّاء والدَّواء"، ومراده بالداء: المعصية، وبالدواء: معالجة الَّنفس من المعاصي؟

جاء الجواب في مقدِّمة وثلاثة أدوية، هذه خلاصتها:

أما مقدِّمة الجواب فقال للشَّاب أمرين اثنين:

الأمر الأوَّل: اعلم أنَّه لكلِّ داءٍ دواء، قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» [رواه البخاري].

الأمر الثَّاني: اعلم أنَّك أحسنت إذ سألت العلماء، فالنَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

«إِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ» [رواه أبو داود].

وأمَّا الأدوية الثَّلاثة للمعاصي فهي: القرآن الكريم، والدعاء، وأن تعرف ضرر المعاصي، وأنا أزيد عليها رابعاً اللحاق بمجالس العلم والذكر.

أما الدَّواء الأوَّل: القرآن الكريم.

فمن ابتُلي بمعصية فليجعل لنفسه ورداً يومياً من قراءة القرآن الكريم وفهمه، و

 ليعمل به ما استطاع، وليعلِّمه لغيره؛ لأنَّ الله تعالى قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]. وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].

وكم تاب بآيات القرآن الكريم مُذنب، وكم أقلع عن الذُّنوب بآيات القرآن الكريم عاصٍ، وحسبك بالفُضيل بن عياض؛ كان قبل توبته مسرفاً على نفسه، غارقاً في شهواته،

قاطع طريق، صاحب معصية، فسمع يوماً قارئاً يقرأ هذه الآية في سورة الحديد:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ

أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، فوقعت في قلبه، فقال: بلى، آن أن أتوب. ثمَّ أعلن توبته، وحَسُنت سيرته.

بل إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم لَمَّا سمع آيات من سورة طه، وهكذا

حدث مع عدد من الصَّحابة الكرام.

وأما الدَّواء الثَّاني: فالدُّعاء بإلحاح وإصرار:

إذا تمكَّن منك ذنب أو معصية فَفِرَّ إلى الله عزَّ وجلَّ، واطلب منه أن يدفع ذلك عنك، فالدُّعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، والدُّعاء سلاح

المؤمن، وإن الله تعالى يحبُّ الملحِّين في الدُّعاء.

قال صلى الله عليه وسلم: «دعْوةُ ذِي النُّونِ إذ دعا في بطنِ الحوتِ، قال: لا إِله إلا

أنت، سبحانك، إنِّي كنت من الظَّالمين، فإنَّه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له» [رواه الترمذي].

وأما الدَّواء الثَّالث: فالعلم بأضرار الذُّنوب والمعاصي:

فالمعاصي للقلوب كالسُّموم للأبدان، وهل في الدُّنيا والآخرة شرور إلا سببها

المعاصي والذُّنوب؟!.

قل لي بربك: ما الذي أخرج الأبوين من الجنَّة؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلَّهم

حتَّى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟

وما الذي سلَّط الرِّيح العقيم على قوم عاد، وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر...؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ أليست الذُّنوب والمعاصي؟!

لما فُتحت قبرص، وجيء بالأسرى جعل أبو الدَّرداء يبكي، فقال له جبير بن نفير:

أتبكي وهذا يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك!! إنَّ هذه كانت أمَّة قاهرة

لهم ملك، فلمَّا ضيعوا أمر الله صيَّرهم إلى ما ترى، سلَّط الله عليهم السَّبي، وإذا سلَّط على قوم السَّبي، فليس لله فيهم حاجة، وقال: ما أهون العباد على الله تعالى إذا تركوا أمره. [رواه أحمد].

فمن أضرار الذنوب والمعاصي: زوال النعم، وحلول النقم: فما زالت عن العبد نعمة

إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة. وقد قال تعالى: {مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53].

ومن أضرار الذنوب والمعاصي: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور.

لما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته، وتوقد ذكائه، وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه

بظلمة المعصية.

وقال الشافعي رحمه الله:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور

ونور الله لا يؤتاه عاصي

ومن أضرا الذنوب والمعاصي: حرمان الرزق، ففي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».

ومنها: الوحشة التي تحصل له بينه وبين الناس، ولاسيما أهل الخير منهم، فإنه يجد وحشة بينه وبينهم، وكلما قويت تلك الوحشة بعد منهم ومن مجالستهم، وحرم بركة الانتفاع بهم، وقرب من حزب الشيطان، بقدر ما بعد من حزب الرحمن، وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم، فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه، وبينه وبين نفسه، فتراه مستوحشاً من نفسه.

ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه.

ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا ادلهم، وتقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه.

قال عبد الله بن عباس: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في

الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه،

وظلمة في القبر والقلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.

وقد يخسف الله بقلبه كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل السافلين وصاحبه لا يشعر، وعلامة الخسف به أنه لا يزال جوالا حول السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالا حول العرش.

ومنها: أن المعاصي تقصر العمر وتمحق بركته ولا بد، فإن البر كما يزيد في العمر، فالفجور يقصر العمر.

ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه. وإذا هان العبد

على الله لم يكرمه أحد، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18] وإن عظّمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفاً من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

ومنها: أن المعصية تورث الذل ولا بد؛ فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.

وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.

قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إنّ ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

فمعرفة أضرار الذنوب والمعاصي في العقل والنَّفْس والجسد والمجتمع والقلب و

الأمَّة والأنفس والآفاق تعين المرء على اجتنابها.

وأما الدواء الرابع الأخير فاللحاق بمجالس العلم والذكر: إذ تحف الملائكة بهذه المجالس وتنزل السكينة في أهلها ويذكر الله جلاسها فيمن عنده، ولا يشقى جليسها.

وهي رياض الجنة في الأرض تساعدك على قراءة القرآن، وتعينك على اللجوء إلى

الله عزَّ وجلَّ، وتذكِّرك بأضرار المعاصي، وتجمعك بالصَّالحين، وتقيك شرَّ الفاجرين.

وبعد أيها الشاب المؤمن:

هذا واحد من همومك "كيف أترك المعصية"، وهذا جوابي لك عليه، وأسأل الله أن يعصمني وإياك وسائر المؤمنين من كل ما يبعدنا عنه.

قال رسول الله r: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن

خمس: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما علم». [الترمذي].

والحمد لله رب العالمين

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://www.awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=94&id=5478