الجامع الأموي » خطب الجامع الأموي

الإنسان صانع مَصيره.. إما الجنة أو النار

فضيلة الشيخ مأمون رحمة


الإنسان صانع مَصيره.. إما الجنة أو النار

بتاريخ: 1 من شوال 1439 هـ - 15 من حزيران 2018 م

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.

عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.

يقول المولى في محكم التنزيل: )إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كانَت لَهُم جَنّاتُ الفِردَوسِ نُزُلًا * خالِدينَ فيها لا يَبغونَ عَنها حِوَلًا( [الكهف: 107-108].

معاشر السادة: إن أدلة الشريعة مُتضافرة على أن العمل الصالح طريق الجنة وأن العمل الطالح طريق النار، وقد وعد الله المؤمنين بالنَّعيم وتوعد الفجار بالجحيم، ورفض أن يُسوي بينهما في الجزاء وعَدَّ ذلك سُوء حُكم، حيث قال سبحانه: )إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( [القلم: 34-36]، وقال سبحانه: )أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ( [الجاثية: 21]، وفي هذه الآيات -وهي نماذج لِمِئات غيرها- مَا يدل بِوضوح على أن الإنسان صانع مَصيره، وأنَّه يشق بيده طريق مستقبله، وأن القدر لا يَسوق الناس إلى دار الجزاء خَبط عشواء، لا، إنهم يَجنون في الدار الآخرة ثمار ما غرسوا في الدار الدنيا، وكل كلام غير هذا فهو جهل بالإسلام أو افتراء عليه، بَيدَ أنَّ مِن تمام العمل الصالح أن نَقدره قدره وألا نتجاوز به حدوده، فإن مَن ظن أنَّ عِبادة عدد سنين في الأرض هي الثَّمن الحقيقي لخلود غير مُتناه في السماء فهو رجل مُجازف، ومَن ظَنَّ أن ما نهض إليه من واجبات وما تَطَوَّع به مِن نوافل يَكفيه لدخول الجنة فهو هازل، الواقع أن الله عز وجل ينظر إلى نِيات الخير في قلوب أهل الإيمان، فيعفو عن كثير مِن زللهم، ويتجاوز عن كثير مِن تقصيرهم، ويُكثر قليلاً مِن الأعمال التي يقومون بها، كما يُكثر للفلاح حصاد زرعه وإن كان ما بذر يسيراً، ولولا هذا ما شعر بِلذة الفوز أحد، وإلى هذا الفضل الإلهي أشار القرآن بقوله سبحانه: )وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـكِنَّ اللَّـهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ( [النور: 21].

إنَّ الاغترار بالنَّفس رَذيلة تُسقط قيمة العمل، ولو أن أحداً طلب مِن الله أن يُقربه إليه أو أن يُجزل له في المثوبة، ناظراً في ذلك إلى ما بذل مِن جُهد ما استحق عند الله شيئاً طائلاً، والواجب أن يَتقدم الإنسان إلى الله وهو شاعر بتقصيره مُوقن بأن لله عليه حقاً، وأنَّه إذا لم يَتغمده الله بِرحمته هلك، هبك بَذلت نفسك ومالك لله، أليس هو خالق هذه النفس؟ أليس هو واهب هذا المال؟ فإذا أدخلك الجنة بعد هذا الفضل والمنة؟ ألا يكون مُتفضلاً؟.

وانظر إلى سِلسلة الأعمال التي تُؤديها خِلال فترة المحيا على هذه الأرض وما يكتنفها مِن علل النفس وآفات التقصير، إنها لو كانت أعمال غَيرك فَعُرضت عليك أنت ما تَقبلها إلا على إغماض طويل وتجاوز خطير!.

إنَّ المؤمن يَعمل ولكنه لا يَغتر بعمله أبداً، وهذا يُفسر الحديث الذي رواه البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).

والغريب أنَّ أُناساً فَهموا مِن النَّهي عن الاغترار بالعمل أنَّه إسقاط لِقيمة العمل جملة، وسار الأمر في أدمغتهم على هذا النحو، العمل لا يُدخل الجنة، فلا يَنبغي أن تتعلق الهِمَم به، فلا ضرورة لِبذل المجهود فيه، ثم قَرَّروا بعد ذلك أنَّ العمل الصالح لَيس طريق الجنة، وأنَّ الجنة هِبة من الله يمنحها من يشاء ولو لم يعمل خيراً أبداً، بل ذهبت الغَفلة ببعض المتكلمين إلى الزعم بأنه يجوز أن يُدخل الله الأشرار الجنة وأن يدخل الأخيار النار، وهذا لَغو مِن القول وغَباء في الفكر وافتراء على الله والمرسلين، تُرى ما يكون مَوقف هؤلاء عندما يقول الله للمؤمنين يوم الحساب: )وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ( [الزخرف: 72-73]؟ ثم يَستدل الكلام الإلهي مُبيناً حال المجرمين والمفرطين والمصير الذي آلوا إليه بِسبب ظُلمهم لأنفسهم، حيث قال سبحانه: )إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ( [الزخرف: 74-76].

لا بُدَّ لِكل مُؤمن مِن تأهيل عَالٍ يَجعله حقيقاً بالانتساب إلى الله والخلود في رحمته، ونفسه التي بين جنبيه هي مَوضع التزكية والترقية، وهو يستطيع رياضتها بما شرع الله من طاعات وحدود، وبما رسم مِن آداب ومعالم، حتى تبلغ الشَّأو والمراد، وليس لِطريق الكمال نهاية يقف عندها المؤمن، فهو ما بَقي حَيَّاً مُكلف بالأمر والنَّهي مُطالب بالنَّظر في نفسه، فلعل فَضلة شَرٍّ بَقيت يجب أن يَستأصلها أو نَشأت مِن جديد يجب أن يَمحوها، ولو أنه أَمِنَ تَسرب الكبائر والصغائر إلى نفسه ووثق مِن ارتداد الوساوس الآثمة عنه، فإن حقوق الله عليه مِن تعبدٍ مَحضٍ تَبقى في عنقه ما بقي فيه نَفَس يتردد، حتى يَلقى الله وهو ذاكر شاكر مُستسلم الفؤاد والجوارح، يَظهر على روحه وجوارحه هذا التوجيه العالي، )قُل إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلَّـهِ رَبِّ العالَمينَ * لا شَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المُسلِمينَ( [الأنعام: 162-163].

والطريق إلى الله تعبير لَطيف عن جهود المؤمن في تزكية نفسه وترضية ربه، وتحول عن مواطن الغفلة والركود إلى مواطن الذكر والحركة، ومراحل الطريق تتمثل فيما يُحرزه المؤمن مِن نجاح وهو يتخلص من خلة رَديئة أو مسلك عابث، ويتحلى بخلق كريم وسيرة جادة.

إنَّ هذه النّقلة النَّفسية خُطوة متميزة فيما يُخلفه المؤمن وراءه مِن أحوال لا تليق وفيما يَستقبله مِن صَحوة واستحكام رأي ودِقَّة تَصرف، الطريق إلى الله عِدته الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، ومع هذه العِدة التي يَقوم المؤمن بها رَجاءٌ حَارٌّ في التَّوفيق الإلهي الذي يُسدد الخُطى ويُبارك في القليل، ذلك أن الله وعد المقبلين عليه بإقبال أعظم وعطاء أجمل، حيث قال سبحانه: )كُلًّا نُمِدُّ هـؤُلاءِ وَهـؤُلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحظورًا( [الإسراء: 20]، والسائر لو وُكِلَ إلى جُهده وحده غَلبته وعثاء الطريق فمشى ببطء أو انقطع بَعد لَئيٍ، ومِن ثَمَّ فإن تَعويل السَّائرين والعاملين يَنبغي أن يكون على الإمداد الإلهي أضعاف ما يَكون على الجهد المبذول، ألا ترى الفَلاح يَبذر الحَبَّ ويَسقي الأرض ويَنظر بعد ذلك إلى بركات السماء، وهو مُدرك أن جُهده المحدود لا قِيمة له ما لم يَلحظه الله بعنايته، إن هذه العناية قد تُفاوت بين جُهدين متساويين، فتجعل نَتاج هذا عشرة أضعاف ذاك.

معاشر السادة: إن شَهر رمضان قد مضى، شهر الطاعة والعبادة، شهر الرحمة والمغفرة والرضوان، طُوبى لمن عمل صالحاً، طوبى لمن اغتنم وتزود، وداعاً يا شهر رمضان، وداعاً يا شهر الخير والنور والرحمة، مَن عمل فيك صالحاً فإنه يَحصد يوم القيامة خيراً، ومَن زرع فيك شوكاً يا رمضان فإنه لا يَجني مِن الشوك العنب.

هذا اليوم هو اليوم الأول من أيام عيد الفطر المبارك، هذا اليوم سماه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الجائزة، فقد روى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق فنادوا: اغدوا يا معشر المسلمين إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل، فقمتم وأمرتم بصيام النهار فَصمتم، وأطعتم ربكم فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلوا نادى منادٍ: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)).

هذا اليوم هو يوم الجائزة، هو يوم مَن صام، هو يوم من قام، هو يوم مَن حقن الدم، هو يوم مَن دافع عن أرض هذا الوطن، هذا اليوم هو يوم الطُّهر والعفاف، هذا اليوم يتجلى الله عز وجل فيه على عباده الذين يُحبون بعضهم، الذين يَسعون إلى إقامة التراحم، إلى إقامة التعاون فيما بينهم، هذا اليوم يتجلى الله فيه على أهل المحبة والإيمان، هذا اليوم لا مكان ولا ثواب ولا مثوبة ولا أجر فيه لحاقد ولا لحاسد ولا لباغض ولا لعدو.

هذا اليوم هو يوم المؤمنين، يوم المكافأة، يوم الجائزة، يوم الذين استقاموا وعرفوا قدر رمضان، وعرفوا قدسية شهر رمضان، وعرفوا قدسية المساجد في شهر رمضان، وهذا الدرس سيواظبون عليه ما بعد رمضان، ولا ينبغي عليك -أيها المسلم، أيها المؤمن- أن تزهد بالدروس التي تعلمتها في هذه المدرسة الإيمانية في شهر رمضان، فإننا لا نعبد الأيام والليالي، ولا شهر رمضان، إنما نعبد الله الذي خلق رمضان، والذي شرع لنا الصيام في رمضان، والذي أنزل لنا القرآن في شهر رمضان.

هذا العيد هو بمثابة عيدين، لأنه عيد تجلت فيه انتصارات الجيش العربي السوري، هذا العيد هو العيد الأول بفضل الله جل جلاله، لم نشهد فيه قذيفة هاون، بل استرحنا مِن ذلك، وأصبحت قذائف الحقد والإرهاب التي كانت تُطلق مِن الغوطة الشرقية والتي كانت تُقذف مِن الحجر الأسود ومخيم اليرموك ومِن غيرها مِن الأماكن قد أصبحت في طَيِّ النِّسيان، العيد اليوم اكتمل بالانتصارات التي تحققت على أرض هذا الوطن، والعيد الحقيقي والعيد الكبير سيكون قريباً بإذن الله جل جلاله، عندما يتحقق الانتصار ويعود الأمن إلى كافة أماكن ومحافظات هذا الوطن الحبيب، ولولا دماء الشهداء الأبرار -عليك أن تدرك هذا، أيها السوري، أيها العربي، أيها الشريف، أيها العاقل، عليك أن تدرك أنه- لولا دماء الشهداء لما شعرنا بنعمة الأمان التي نعيشها الآن، لولا شهداء مدينة دمشق، لولا شهداء ريف دمشق، لولا شهداء طرطوس الحبيبة، لولا شهداء جبلة الأبية، لولا شهداء لاذقية العرب، لولا شهداء جبل العرب، لولا شهداء السويداء، لولا شهداء حماة وحمص وريفهما؛ لما شعرنا بنعمة الأمن والأمان، وعهداً أمام الله أننا سنحفظ لكم هذا العهد يا دماء شهدائنا الأبرار، سنحفظ لكم هذا العهد وهذا الود، وسنجلكم في كل يوم وفي كل لحظة نعيشها من حياتنا، لأنكم أنتم مَن زرع الأمان، وأنتم من أعاد الحب إلى العيد، وأنتم مَن زرع السَّعادة في قلوب الناس، وأنتم مَن زرع البَسمة على وجوه الأطفال والنساء بدمائكم الطاهرة وبدمائكم الزكية، لولا دماؤكم الطاهرة لما تخلصنا من الإرهابيين القذرين، ولما تخلصنا من المجرمين في الغوطة الشرقية ولا في الحجر الأسود ولا في مخيم اليرموك ولا في داريا ولا في غيرهما من المناطق، لولا دماؤكم الزكية لولا مواقفكم لولا رجولاتكم ولولا صبر أهاليكم على فراقكم لما شعرنا بهذا الفضل العميم الذي نعيشه الآن وننعم به.

رحم الله الشهداء الأبرار، ونسأل الله عز وجل أن ينظر بالشفاء العاجل إلى الجرحى الذين قَدَّموا أطرافهم وعيونهم ودماءهم الطاهرة حُباً ودفاعاً عن سورية وعن دمشق قلب العروبة والإسلام.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.

 

 

الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــــــــــــة:

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله اتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير، اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم إنا نسألك أن تنصرَ رِجالك رجال الجيش العربي السوري, اللهم إنا نسألك أن تنصرَ رِجالك رجال الجيش العربي السوري, اللهم إنا نسألك أن تنصرَ رِجالك رجال الجيش العربي السوري, وأن تكون لهم مُعيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, اللهم إنا نسألك أن تعيد هذا العيد المبارك الطيب على قائدنا وجيشنا وشعبنا وأمتنا العربية والإسلامية بالنصر والخير واليمن والبركة، )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://www.awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=336&id=5469