الخطابة الدينية » منابر دمشق

درس من الهجرة

الدكتور الشيخ محمد خير الشعال


درس من الهجرة

 

   قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا

   فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنْزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ

لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوبة:40].

أيها الإخوة:

 نحن في الخطبة التاسعة والعشرين من سلسلة تربية الأبناء، ولكنني بمناسبة اليوم الأول من العام الهجري الجديد الذي يطالعنا بعد غد، سأجعل عنوان خطبة اليوم: درس من الهجرة .

جاء في سيرة ابن هشام: (اجتمع في دار الندوة أشراف قريش.. فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ

 هِشَامٍ: وَاَللَّهِ إنَّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بعدُ قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ؟ قَالَ

  أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعطي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ

 سَيْفًا صَارِمًا ثُمَّ يَعْمِدوا إلَيْهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيح

  منْهُ.فَإِنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ، فَعَقَلْنَاهُ لَهُم، فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذلك وهم مجمعون له.

   فَأَتَى جبريلُ عَلَيْهِ السِّلَامُ رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لَا تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فراشِك الَّذِي كنتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ عَتْمَة مِنْ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ

   يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ.. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

   مَكَانَهُمْ، قَالَ لعليِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: نَمْ عَلَى فِرَاشِي وتَسَجَّ بِبُرْدي هَذَا الحَضْرمي

  الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُص إلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنَامُ فِي بُرْدِه ذَلِكَ إذَا نَامَ)

 وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، فقد كان

   رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحدٌ عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم.

  وهاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر إلى المدينة المنورة، ووصل سالماً إليها، واستقبله أهلها فرحين مسرورين في قصة الهجرة التي تعلمون.

استوقفني أيها الإخوة في النص الذي نقلته لكم من سيرة ابن هشام وقد توافقت عليه كتب السير، أنّ قريشاً مع عدائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومع كيدها له

  ولأصحابه كانتْ تضع أماناتِها عنده؛ لعلمها أنّه الصادقُ الأمينُ، واستوقفني أنّ رسولَ

  الله صلى الله عليه وسلم مع رؤيته لصناديدِ قريش يقفون على بابه يريدون قتَله

 وتفريقَ دمه في القبائل، لم يرض إلا أنْ يترك وراءَه منْ يردّ الأمانةَ إلى أصحابها، ويعيد الودائع إلى أهلها...!

ويعلق أحدُ الباحثين يقول : (ورُبّ قائلٍ يقول: إنّ وراءَ الهجرة هدفاً أكبر بكثير من

  التمسك بجزئياتٍ أخلاقيةٍ قد يسمح الظرفُ الخطير بتجاوزها.. لكن منطقَ رسولِ الإسلام شيءٌ آخر..

ما الفرق بين الإسلام وبين المبادئ الأخرى إذا كان هو متأسياً بها في تخليه عن أخلاقياته في ساعات المحنة والخطر؟

   وماذا سيقول المشركون لو غادر (الأمين) مكةَ دون أنْ يردّ إليهم أمانتِهم؟ ما أسرع ما يمكن أنْ يتهموه، حيث يأكلهم الغيظ: الأمين تحول إلى سارق، وضاعت الأمانة.. وحاشاه!)

أيها الإخوة:

(الإيمان والأمانة والأمن: كلماتٌ ثلاث ترجع في اشتقاقها اللُّغوي إلى أصل واحد، وارتباطها اللُّغوي جَعل بينها ارتباطاً واقعياً في المادة والمعنى).

و من أبرز علاماتِ المؤمن أنّه يؤدِّي الحقوقَ والأماناتِ إلى أهلها في أزمانها وأماكنها، فيعيش أمْنَاً حقيقياً.

  أما غيرُ المؤمن أو المؤمنُ الذي يعتدي على الحقوق، ويخون الأماناتِ فإنّه يعيش خوفاً

  حقيقياً، يخاف وقوعَه بيد العدالة حيناً، ويخاف وقوعَه بيدِ من اعتدى عليهم حيناً آخر، ويخاف وقوعَه بيد الله حيناً ثالثاً.

 {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النِّساء:58].

  وَرَدَت كلمةُ {الْأَمَانَاتِ} في الآية بالجمع لتشملَ كلَّ أمانةٍ مادية ومعنوية، فالعارية

   أمانةٌ، والأسرة أمانةٌ ، والأولاد أمانةٌ، والحواس أمانةٌ، والوظيفة أمانةٌ، والحُكْم أمانةٌ

، والقضاء أمانةٌ، والكيل والميزان أمانةٌ، والبيع والشِّراء أمانةٌ، وكلُّ مسؤوليةٍ أو

   تصرف في قولٍ أو عملٍ أمانةٌ يجب أداؤها ومراعاتُها في ساحة شرع الله ورضاه،

   فإذا وصل كلُّ حقٍّ إلى صاحبه كاملاً؛ شعر بالطُّمأنينة والقناعة والرِّضا، وعاش

   الجميعُ في مجتمع مؤمنٍ أمينٍ آمنٍ.. أمَّا ضياعُ الأمنِ وفقدُه فهو نتيجةٌ لضَيَاع الحقوقِ والأمانات وفقدها.

 ذكر الإمام الواحدي في أسباب النُّزول: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ

  إِلَى أَهْلِهَا} [النِّساء:58] نزلت في عثمان بن طلحة من بني عبد الدَّار، كان سادنُ

   الكعبة، فلمَّا دخل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضي الله

   عنه بابَ البيت وصعد السَّطح، فطلب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفتاحَ فقيل:

  إنَّه مع عثمان، فطُلبَ منه فأبى وقال: لو علمتُ أنَّه رسولُ الله لم أمنعْه المفتاحَ، فلوى

 عليُّ بنَ أبي طالب رضي الله عنه يدَه وأخذ منه المفتاحَ وفتح البابَ، فدخل رسول الله

 صلى الله عليه وسلم البيتَ وصلَّى فيه ركعتين، فلمَّا خرج سأله العبَّاسُ رضي الله عنه

 أنْ يعطيَه المفتاحَ ليجمعَ له بين السِّقاية والسّدانة، فأنزل اللهُ تعالى هذه الآية، فأمر

   رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليَّاً أنْ يردَّ المفتاح إلى عثمانَ رضي الله عنه ويعتذر

 إليه، ففعل ذلك عليٌّ رضي الله عنه ، فقال له عثمان رضي الله عنه: يا عليّ، أكرهتَ

  وآذيتَ ثمَّ جئت ترفق؟! فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك، وقرأ عليه هذه الآية، فقال

  عثمان: أشهدُ أنَّ محمَّداً رسول الله، وأسلم رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: «خُذُوْهَا يَا بَنِيْ أَبِيْ طَلْحَة بِأَمَانَةِ اللهِ لَاْ يَنْزِعَهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِم» [أخرجه الطبراني].

  يقول الشيخ عبد الرزاق الحمصي رحمه الله: (الأسرة ينتشر فيها الأَمْن والسُّرور حين

  يعدل الوالد بين أولاده في العطية وحُسنِ المعاملة، وبين زوجاته كذلك، فيبادلُه الجميعُ الحبَّ والولاء والمودَّة والإخلاص، ويتمنّون له طول العمر.

و الأخ الكبير الذي يرعى حقوقَ إخوته وأخواته بعد وفاة أبيهم؛ فيُنصِفهم ويعطي كلَّ

  ذي حقٍّ حقَّه، فإنَّه واجدٌ منهم حبَّاً ووفاءً، يشاركهم السَّعادةَ في أسرة آمنة مطمئنة لا يكيدُ أحدٌ لآخر، ولا يتربَّص به الدَّوائر..

وزوجة الأب التي تخافُ اللهَ فترعى حقوقَ أولاد زوجها من غيرها كما ترعى حقوق أولادها منه، ستجد منهم عطفاً وحناناً وإخلاصاً وولاءً ينعكس أمناً ورخاءً..

   والمعمل ينتشر فيه الأمن حين يُخلِص صاحبُه لعمَّاله ويعطف عليهم ويرعاهم فيبادلونه بالحبِّ حبَّاً وبالرِّعاية اهتماماً..

والمجتمع يعيش في ساحة الأَمْن والأمان والسِّلم والسَّلام حين يقوم في حكمه وقضائه على العدل والشُّورى والمساواة فينهضُ، المجتمع سليماً معافى..

و لا يغْترَّنَّ خائنٌ لأمانةٍ بكسبٍ حرامٍ عاجلٍ، وغُنْمٍ جاء بعد تصرُّف ظالمٍ غافلٍ، فإنَّ حسابَه وعقابَه لابُدَّ قادمٌ نازلٌ، إنْ في العاجل أو في الآجل، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15].) .

أيها الإخوة:

الطَّالب أمانةٌ في عنق المعلِّم، وربُّنا سائله: أحَفِظَ الأمانةَ أم ضيَّع؟

والمريض أمانةٌ في عنق الطَّبيب، وربُّنا سائله: أرعاه أم فرَّط؟

والجريح أمانةٌ في عنق الممرض، وربُّنا سائله: أجتَهَدَ أم قصَّر؟

والمنشآت العامَّة أمانةٌ بيد النَّاس، وربُّنا سائلنا: أحافظنا عليها أم أسأنا لها ؟

والمشتري أمانةٌ في عنق البائع، وربُّنا محاسبه: أنصحه أم غشَّه؟

والمراجع أمانةٌ في عنق الموظف، وربُّنا سائله: أخَدَمَه وأعانه أم ابتزَّه؟

والموكِّل أمانةٌ في عنق المحامي، وربُّنا سائله: أدَّى واجبَه أم أهمل؟

والخبر أمانةٌ في عنق النَّاقل والمحرر والمذيع، وربُّنا سائله: أصدقَ أم كذب؟

وهكذا تدخل الأمانةُ في العبادات والمعاملات والعلاقات الأسرية وفي القضاء وفي

 الولايات العامَّة والخاصة، وما مظهرُ الإيمان إلا برعاية الأمانة، وقد هاجر رسولُ الله

  صلى الله عليه وسلم وأبقى سيدَنا عليّاً رضي الله عنه وراءه في مكة، وأمره أنْ يؤدّيَ

   عنه الودائع التي كانت عنده للناس، ليقولَ للناس كافة إنّ المؤمنَ أمينٌ في الأزمة وفي الدعة ، في العسر وفي اليسر، ولا إيمانَ لمن لا أمانة له.

أ خرج ابن ماجه عن فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

   «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ» .

والحمد لله رب العالمين

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://www.awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=94&id=3927