الخطابة الدينية » منابر دمشق

آداب الخطيب والمستمع

الشيخ محمد علي الملا


آداب الخطيب والمستمع

الحدث الأهم في يوم الجمعة بالنسبة للمسلم، وهي عبادة لها أهدافها، يتعاون الخطيب والمستمعون لتحقيقها، وكما أن أداء الخطيب لخطبة الجمعة فنٌّ يجب أن يحسنه، وفي الغالب أنه يُنتقد إذا قصّر فيه، كذلك طريقة استماع الحاضرين للخطبة فنٌّ آخر يجب عليهم أن يحسنوه إذا أرادوا الاستفادة من الخطبة

ويرتبط هذا الفنّ بالأحكام والآداب الشرعية المتعلقة بالحضور، وحتى تؤتي الخطبة أُكُلَها، وتؤدي دورها، ويكونُ لها أثرها، لا بد من تكامل طرفَيْ المعادلة: "الخطيب والمستمع" في الوصول إلى الأهداف الموضوعة للخطبة

وكثيراً ما يتم توجيه النقد إلى الخطيب باعتباره الجانب الأهم في المعادلة، بينما يتم إغفال الدور الهام للمستمع، حتى ظنَّ بعض الناس أن على الخطيب إمتاع المستمع، وتشنيف آذانه بما لم يسمع به من قبل إلا أن الخطيب له رسالة عليه أن يؤدِّيها تختلف عن رسالة المستمع

. إن للخطاب القرآني والتوجيه النبوي أهدافاً شرعية، وحِكماً متوخاة من خلال أحكام وآداب الجمعة المستنبطة؛ كالأمر بالسعي، وترك البيع، ووجوب الإنصات، تُخرجها عن الصورة الشكلية التي اعتادها الناس إلى حقيقة أهداف هذه الأحكام بالتفاعل الحقيقي مع خطبة الجمعة تعلُّماً وفهماً وتعليماً وتطبيقاً. ونظراً إلى أن المستمع لا يقيم لخطبة الجمعة تلك الأهمية المطلوبة، ويجهل دوره فيها، فإنه يتحمّل المسؤولية في بعض مظاهر الخلل، فترى البعض يجعل وقتها فرصة للاسترخاء، أو شرود الذهن، أو يجعل أكبر همّه إحصاء أخطاء الخطيب للحديث عنها بعد الانتشار في الأرض، وترى آخرين يصدرون حُكْماً مسبقاً على الخطبة بناء على معرفتهم بتوجّهات الخطيب، أو أدائه السابق، فهؤلاء لا يجدون فائدة في حكمة يتلقّونها، أو فكرة يستمعون لها، وإن كانت جديدة عليهم.

إن معيار نجاح الخطبة، هو: أداء العبادة على وجهها الصحيح

ولأدائها على وجهها الصحيح لا بد من تحقيق أهدافها؛ وأهمها: ما تتركه من أثر في حياة المجتمع من زيادة علم أو تجديد فكر أو أمر عملي؛ كإحياء سُنَّة، أو إحداث توبة، أو تغيير في جانب من جوانب الحياة، وبمقدار تحقيق أهدافها يكون نجاحها. وأما حسن أداء الخطيب واستمتاع الحضور بالخطبة، فهو من عوامل نجاح الخطبة وفن استماع الخطبة يحيط بعمل المستمع قبل التوجُّه إلى الجمعة، وأثناء حضوره، وبعد خروجه، وانتشاره في الأرض، كما يشمل الجانب الجسدي للإنسان والنفسي والفكري

.

وكما قلت: من السهل جداً أن تحسن فنّ انتقاد خطيب ما، لكن هل أحسنت أيضاً فنّ انتقاد نفسك كونك مستمعاً للخطبة. ولكي تستفيد -أيها المستمع- من الخطبة على الوجه الأكمل، فإني أذكرك بنقاط تتأملها، وتأخذ بها لتستفيد من الخطبة، وتحسن فنّ استماعها

أولاً: أخذ قسط معتدل من النوم ليلة الجمعة، حتى لا يغلبك النعاس أثناء الخطبة، وذلك باتخاذ الأسباب المؤدية إلى ذلك؛ كالنوم المبكر، وترك السهر الذي اعتاده الناس اليوم

ثانياً: الاعتدال في الطعام والشراب، فلا يخصص يوم الجمعة بصيام، ولا يثقل معدته قبلها بأنواع الطعام، ويجعل وقتاً بين تناول الطعام ورواحه إلى الصلاة، ويجعل للطعام بعد الصلاة نصيباً؛ ثالثاً: العمل بالسنن الواردة؛ كالغسل وهو من آكد السّنن، والطيب والسواك، ولبس الحسن من الثياب المناسب لطبيعة المكان، ودرجة الحرارة، فإنها أمور مساعدة على الاستيعاب، وتفتّح الذهن، وحُسن الاستماع، وعدم الانشغال عن الخطبة، وتمنع النعاس أو النوم؛ عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "أشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستنّ، وأن يمسّ طيباً إن وجد"[أخرجه البخاري في صحيحه]

وعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- عند أبي داود وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما على أحدكم إن وجد، أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته"

وبوّب البخاري: باب: يلبس أحسن ما يجد

رابعاً: عدم التشاغل قبل الجمعة بأمور الدنيا التي تشغل الفكر؛ كالبيع والشراء، وأنواع العقود، واللّهو بمتابعة أجهزة التواصل الاجتماعي قبل الجمعة مما يشتت الذهن، وقد جاء النهي عن البيع بعد النداء ويُلحق به أنواع العقود، ولعل الأذان الذي يسبق أذان الجمعة في السوق للتذكير بهذا الأمر كما جاء الأمر بالتبكير إلى الجمعة، والانشغال بأمور الآخرة كقراءة سورة الكهف والصلاة قبلها تطوّعاً

خامساً: اختيار المكان المناسب في المسجد بحيث يدنو من الإمام، ولا يستند إلى سواري المسجد وجدرانه إلا لعذر ليكون شديد الانتباه، متيقظاً مشدوداً لكلام الخطيب، وعليه أن لا يتخطى الرّقاب فيشغل غيره ويؤذيه، ولا يقيم أحداً ليجلس مكانه، ولا يجلس مقابلاً بوجهه الناس فينشغل بالاهتمام بهم ويشغلهم؛ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحوّل من مجلسه ذلك" [رواه أبو داود بسند صحيح].

سادساً: ينصت للخطبة ولا يلغو بالكلام مع غيره، أو حتى بالإشارة؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قلت لصاحبك أنصتْ يوم الجمعة والإمام يخطب، فقد لغوت" رواه مسلم

سابعاً: يتوجّه بوجهه إلى الخطيب، فإنه أدعى للاستيعاب والفهم لاشتراك أكثر من حاسّة في الإصغاء؛ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا" رواه الترمذي

ثامناً: يجلس المستمع بشكل مناسب، فلا يضطجع أو يحتبي أو يمدّ رجليه إلا لعذر، فقد ورد النهي عن الاحتباء يوم الجمعة؛ عن سهل بن معاذ -رضي الله عنهما- عن أبيه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب رواه الترمذي

تاسعاً: لا يتلهى عن الخطبة بما حوله كالعبث بالأشياء مثل: السجاد والملابس، والأظافر، وفرقعة الأصابع؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا رواه مسلم

عاشرا: تعظيم شأن الخطبة في نفسه فهي أمر من أوامر الله، وعدم الاستخفاف بها أو التهوين من دورها في حياته، تبعاً لواقع معين عند الناس ألفوه، حتى تتحول من عادة إلى عبادة

الحادي عشر: اتهام نفسه بالتقصير لتدارك أخطائه، فإن من الملاحظ أن بعض المستمعين إذا سمع توجيهاً في نقص معين قال في نفسه: هذا فلان يفعله، أو كل الناس واقع في هذا، ويبرِّئ نفسه

الثاني عشر: نقل مضمون الخطبة إلى غيره ممن حضر في مسجد آخر، وللنساء في البيوت، وكذا أهل الأعذار، أو تسجيل الخطبة وتداولها لتعميم الفائدة

الثالث عشر: مناقشة الخطبة مع بعض من حضر للاستفادة منها، والبحث عن كيفية التطبيق العملي للخطبة،

إن خطبة الجمعة أمرُها جِدّ، وليس بالهزل، وهي وسيلة تغيير وتجديد، وهي من عوامل حياة هذه الأمة، فالاهتمام بها من الخطيب والحضور جزء من إحياء الأمة، ومن ثم واجب على المكلف بأدائها

ولم يزل المسلمون يعظمون هذا اليوم ويخصونه بمزيد من الاهتمام، حتى أولئك الذين لا يحافظون على الصلوات الأخرى تراهم يواظبون على صلاة الجمعة على الرغم من تفريطهم في غيرها

والحق أن صلاة الجمعة ذات أثر عظيم في حياة المسلمين، فالمنبر كان ولا يزال، وسيستمر إلى آخر هذه الدنيا مصدر تعليم، وتثقيف وإصلاح، واجتماع المسلمين منبع أخوة وتآلف

كما أن للجمعة والجماعة فضلاً في وحدة المسلمين في العبادات، وإحكام الدين من الانحراف وبقاء مظاهر الحياة الإسلامية، وحفظ المسلمين من الانسلاخ ومزيد من الفرقة كما في الأديان الأخرى

فهل نعي دور منبرنا لنعود أعزّة كما كنّا؟

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://www.awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=94&id=3480