الخميس 09 شوال 1445 - 18 أبريل 2024 , آخر تحديث : 2024-04-14 09:52:35 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2018-03-04 الساعة 09:26:11
آباء مربون
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]

قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهٌ: قُوا أَنْفُسَكُمْ بِأَفْعَالِكُمْ وَقُوا أَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ. وقال: علموهم وأدبوهم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع،

ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في

بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها» [البخاري].

عنوان خطبة اليوم: آباء مربون

أيها الإخوة:

في زحمة هذه الحياة ومع دخول أجهزة الاتصال ومواقعه إلى بيوتنا بتنا بحاجة أكبر

إلى العناية بالتربية داخل البيوت، ذلك لأن الابن والبنت إن لم يكن محصناً بالتربية

والعلم داخل بيته فإن غزوه سهل وإن أخذه من بين أيدينا سريع، وإن حسرات ذلك

عائدة على نفسه أولاً ووالديه ثانياً والمجتمع عامة ثالثاً.

من أجل هذا عزمت أن أخطب اليوم عن آباء مربين بعد أن تحدثت خطبة مضت عن أمهات مربيات، لنشد الهمم في العناية بأبنائنا ليكونوا قرة عين في الدارين.

تواتر لنا عن المربين والمؤدبين والعقلاء أهمية الأب في تربية الأبناء، ولئن كنا

نرى الكثير من آباء اليوم مشغولين بالتغذية عن التربية، فإن ما فاتهم من تربية

أبنائهم أكبر مما حصلوه من جني المال عليهم.

أخرج الترمذي بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ وَلَدَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ»

قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (وَإِنَّمَا يَكُونُ خَيْرًا لَهُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّهِ

لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ تَحْتَ الِاحْتِمَالِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِفَادَةٌ عِلْمِيَّةٌ حَالِيَّةٌ وَالثَّانِي عَمَلِيَّةٌ مَالِيَّةٌ، أَوْ لِأَنَّ أَثَرَ الثَّانِي سَرِيعُ الْفِنَاءِ وَنَتِيجَةَ الْأَوَّلِ طَوِيلَةُ الْبَقَاءِ، أَوْ لِأَنَّ الرَّجُلَ بِتَرْكِ الْأَوَّلِ قَدْ يُعَاقَبُ وَبِتَرْكِ الثاني لم يعاتب).

وقال المناوي في فيض القدير: (لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية و

صدقة الصاع ينقطع ثوابها وهذا يدوم بدوام الولد).

ها أنا أضع بين أيدي الآباء نماذج لآباء مربين صنعوا العالم يوم ربوا أبناءهم تربية عالية، لعلنا نسلك سبيلهم ونتعلم منهم فنخرج من الأبناء مثل ما خرجوا.

- أولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمع مسؤولياته الجسام ومع حمل هم الأمة

ومع انشغاله الكبير بالدعوة لم يغفل حق أولاده وأحفاده في التربية، يروي الإمام

الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].

بروحي رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر في كل صلاة فجر يقرع الباب

على بيت ابنته وصهره ليدعوهم لصلاة الفجر من دون كلل ولا ملل، ويتلو عليهم

كلام الله يحفزه على الإقبال على الله.

ويأخذ الحسن بنُ عليٍّ تَمرة من تَمر الصدقة، فيجعلها في فِيهِ. فيقول رسولُ الله

صلى الله عليه وسلم: «كِخْ، كِخْ، إِرْمِ بها؛ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لا نأكل الصدقة؟» [البخاري]. لقد كان عمر سيدنا الحسن يومها سنتين أو قريباً من ذلك ويتابعه على رسول الله

صلى الله عليه وسلم على حبة تمر، ويروي الحاكم في مستدركه عن السيدة عائشة

عن سيدنا الحسن يقول: (عَلَّمَنِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي

الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ

لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لا يُذَلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ»)

فإذا علمتم أنّ عمر الحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان ثماني سنين

 تفطنتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مسؤولياته العظام وهمومه الجسام يجلس إلى سبطه الحسن وهو في السادسة من عمره أو السابعة يعلمه دعاء القنوت.

لقد صار الحسن والحسين بتربية رسول الله صلى الله عليه وسلم سيّدَي شباب أهل الجنة، وصارت أمهم السيدة فاطمة واحدة من أربع نساء هن سيدات أهل الجنة.

فمهما استطاع الأب المربي أن يتابع أولاده في مصدر دخلهم ويعلمهم شؤون دينهم

فقد قدم لهم سعادة الدنيا والآخرة بإذن الله.

- والثاني والد الإمام النووي: تعلمون أيها الإخوة أن الإمام النووي هو شيخ الإسلام الإمامُ الحافظُ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ثم الدمشقي الشافعي، شيخُ المذهب، وكبيرُ الفقهاء في زمانه.

ولِد سنة إحدى وثلاثين وستمائة في نوى (قرية من قرى حوران) من أبوَين صالحين، كان أبوه دكّانياً بنوى، معروفاً بالصلاح والخير، وكان إذا حضر مجالس العلماء بكى

 وتضرع إلى الله تعالى أن يهبه ولدا صالحا فكان أن كافأه الله على صلاحه بإجابة

دعائه في ولده الإمام النووي.

قال الشيخ ياسين بن يوسف المرّاكشي: (رأيتُ النوويَّ وهو ابنُ عشر سنين بنوى،

والصبيان يُكرِهونَه على اللعب معهم، وهو يَهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأُ

القرآن في تلك الحال، قال: فوقعَ في قلبي محبتُه، ... فأتيت معلِّمَه فوصَّيتُه به،

وقلتُ له: إنه يُرجى أن يكون أعلمَ أهلِ زمانِه وأزهدَهم، وينتفع الناس به. فقال لي:

أمُنجِّمٌ أنت؟ فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك. قال: فذَكَرَ المعلِّمُ ذلك لوالدِه، فازداد حرصُه عليه إلى أن ختم القرآن، وقد ناهَزَ الحُـــلُم).

قال ابن كثير في قصة الجدار الذي كان للغلامين في المدينة وكان تحته كنز لهما،

 قال وقوله: وكان أبوهما صالحا فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته

وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت به السنة.

فمهما استطاع الأب المربي أن يلزم الصلاح ويدعو لأولاده فليفعل؛ لأن الله يصلح

أولاده بصلاحه ودعائه.

- الثالث والرابع: والدا الإمام مسلم بن الحجاج والحافظ ابن عساكر:

يقول أهل التراجم: نشأ الإمام مسلم في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده

حجاج بن مسلم القشيري أحد محبي العلم، وأحد من يعشقون حلقات العلماء، فتربى الإمام وترعرع في هذا الجوِّ الإيماني العلمي الرائع. وبدأ رحلته في طلب العلم مبكراً،

فلم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين بدأ في سماع الحديث؛ وحج في سنة عشرين وهو أمرد.

- ومثل والد الإمام مسلم والد الحافظ ابن عساكر صاحب تاريخ مدينة دمشق قال

 أهل التراجم كان أبوه فقيها محدثا بل كانت أسرته كلها أسرة  علمية دينية، فوالدته

من أسرة معروفة بالفقه والعلم، وجده لأمه هو قاضي دمشق المعروف بابن الصانع،

وخالاه قاضيان مشهوران، هذا الأصل أنبت فرعاً عبقاً {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ

بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف:58]، وهاهنا فائدة لكل شاب ماضٍ نحو الزواج ولكل فتاة يقرع بابها الخاطبون: أن يختار كل منهما من عُرف بالدين القويم والخلق المستقيم؛ لأن الفروع تطيب بالأصول.

 رأى أبوه رؤيا يقال له فيها: يولد لك ولد يحيي الله به السنة. وولد ابن عساكر

فاحتفى به أهله ورعوه حق رعايته فكان أن أدبه والداه على حب القرآن والسنة،

وعلَّماه حب العلم والعلماء، فدرج الغلام في حلقات العلم في دمشق ثم سمت هِمته

 للسفر إلى بغداد للنهل من معين علمائها، فمضى الشاب حثيثاً في الطلب يجتهد في

حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم متناً وإسناداً حتى قال عنه أساتذته: قدم علينا ابن عساكر، فلم نر مثله، وما كان ببغداد إلا شُعلة نار مِن توقُّده وذكائه وحسن إدراكه.

فمهما استطاع الأب المربي أن يسبق أولاده إلى العلم والأدب ليسيروا وراءه على

هذا الطريق فليفعل إذ الابن يتعلم من حال أبيه أكثر مما يتعلم من مقاله.

أيها الإخوة:

لو أردت أن أسرد لكم أخبارَ آباءٍ مربين من ماضينا وحاضرنا لطال بي المقام، ولكن أخلص إلى نتيجة عمليه من هذه الخطبة فأقول لكلّ أبٍ فينا:

مهما أرادت أن تكون أباً مربياً فعليك بأمور ثلاثة: دعاء وقدوة ومتابعة، فأولها: كثرة

 الدعاء لأولادك: إذ إن دعاء الاب لابنه لا يرد، وثانيها: كن قدوة صالحة لهم إذ يتعلم الابن من والده بعينيه أكثر مما يتعلم منه بسمعه، وعيون الابن معقودة بأبيه فالحسن

  عنده ما حسنه والقبيح لديه ما استقبحه. وثالثها: متابعة حثيثة للابن والبنت، وقد

  عرفوا التربية بأنها إصلاح الابن شيئاً فشيئاً، وهذا الإصلاح المتدرج والمتتابع

 يحتاج إلى متابعة حثيثة وصبر وصمود ليصير الابن عَلَماً يشار إليه وتصير البنت مَدْرَسةً يُقتدى بها.

اللهم اجز عنا آباءنا خير الجزاء وبارك في شبابنا ليكونوا آباء مربين وصالحين مصلحين.

والحمد لله رب العالمين

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1886
تحميل ملفات
فيديو مصور