الجمعة 10 شوال 1445 - 19 أبريل 2024 , آخر تحديث : 2024-04-14 09:52:35 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-03-07 الساعة 10:47:45
مبادئ عامة في فقه المهن؟ -3-
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

 

 

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ

إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ

خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». [البخاري].

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

أيها الإخوة:

هذه هي الخطبة الرابعة في سلسلة ( مهنتي: فقهها وآدابها)

 ونتابع الحديث فيها عن: مبادئ عامة في فقه المهن؟ -3-

  عرضت الخطب السابقة لخمسة مبادئ:

1- الأصل في حكم المهن والحرف أنها فرض كفاية.

2- لا يمنع  أخذ الأجر المادي في مهنتك من أخذ الأجر الأخروي.

3- الأصل في المهن الإباحة مالم يأت الدليل المحرم.

4- في الحلال ما يغني عن الحرام.

5- العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

المبدأ السادس: الضَّرورات تبيح المحظورات.

ويرد هذا المبدأ على ألسنة الناس سواء في مهنهم أو في معاملاتهم الأخرى، لكن لا بد أن نجلوه واضحاً حتَّى نستخدمه في مكانه الصَّحيح.

-    اجتمع خالدٌ مع مدراء الأقسام في شركته التي يملكها، بدأ الاجتماع السَّاعة

 الخامسة مساءً واستمر حتَّى الثامنة، لَمَّا عاد إلى بيته سألته زوجته هل صلَّيت

  المغرب؟ فقال: لا، كنت في اجتماع مهمٍّ ولم أصلِّ، والضَّرورات تبيح            المحظورات. تُرى هل فَهِم خالد هذا المبدأ فهماً صحيحا؟!

- عبد الله طبيب أسنان اتخذ لنفسه سياسة مع مرضاه فيما يتعلق بأضراس

العقل، فأيما مريض جاءه قلع له هذه الأضراس؛ لأنه يتوقع أنها ستسبب مشكلات لاحقاً، ولئن كان قلع الضرس ابتداء محظوراً شرعاً لكنه يقول: إن الضرورات تبيح المحظورات، فهل صحيح ما يفعله الدكتور عبد الله.

-    أراد أحمد مع مجموعة شركاء بناء مشفى، قدروا كلفتها الإجمالية بمليار

ليرة، وقَّعوا العقود وباشروا تنفيذ الأعمال، واقترب المشفى من يوم الافتتاح، لكنَّهم فوجئوا بحاجتهم إلى خمسين مليوناً إضافية لم تكن في حسبانهم لشراء أجهزة لأحد أقسام المشفى، فاضطروا -بزعمهم- لأخذ قرض ربوي لصالح مشروعهم، والضَّرورات تبيح المحظورات. تُرى هل أخطؤوا أم أصابوا؟!

      سنجيب على هذه الأسئلة ونتحدث عن معنى هذا المبدأ المهم وهو قاعدة فقهية متفق عليها عند العلماء: الضَّرورات تبيح المحظورات.

أبدأ أوَّلاً بشرح كلمات القاعدة:

الضَّرورات: جمع ضرورة، وهي في اللُّغة مشتقة من الضَّرر، وهو الأمر

النَّازل بما لا مدافع له، وفي الاصطلاح: أن يبلغ الإنسان حدَّاً إن لم يتناول الممنوع هَلَك أو قارب على الهلاك.

أو بتعريف آخر: هي نزول حالة من الخطر بالإنسان أو المشقة الشَّديدة في نفسه أو في ماله أو في عرضه أو في دينه أو في عقله.

تبيح: الإباحة هنا رفع الإثم والمؤاخذة عند الله تعالى، أمَّا إذا كان المحظور

متعلِّقاً بحقٍ مالي للغير فيجب على المضطر بعد ذهاب الاضطرار أن يَرُدَّ هذا الحق للغير، بمعنى: من أتلف مالاً لغيره مكرَهاً فإنَّه يُباح له هذا الفعل، لكن بعد انتهاء حالة الإكراه يجب عليه أن يعوِّض هذا الإنسان عمّا أتلَفَه له.

مَن أكل مال غيره مضطراً بغير إذنٍ منه كأن يكون في أرض فلاة ليس عنده

 شيء من الطَّعام، وكاد أن يهلك، فرأى بستاناً، فدخل البستان وأكل من ثمره بغير إذن صاحبه فهو مضطر، ولا إثم عليه عند الله، لكن بعد انتهاء الاضطرار ينبغي أن يعوِّض صاحب البستان عمَّا أكل منه.

إذاً تبيح: أي ترفع الإثم الأُخرَويّ، أمَّا حقوق العباد فلا بد أن تؤدَّى بعد زوال الاضطرار.

المحظورات: جمع محظور، وهو كلُّ محرَّم في الإسلام، سواء كان ارتكاباً لحرام، أو تركاً لواجب، أو تأخيراً للواجب عن وقته.

ومعنى القاعدة أنَّ حالات الاضطرار أو الحاجة العامة تبيح ارتكاب ما نهى الشَّرع عنه بشروط، تسمَّى ضوابط الضَّرورة وهي:

الضَّابط الأوَّل: أن تكون الضَّرورة مُلجئةً.

بحيث يَخشى المرء تَلَفَ نفسه، أو تَلَفَ عضوٍ من أعضائه، أو تَلَفَ المال، أو تَلَفَ العرض، أو تَلَفَ العقل، أو ذهاب الدِّين.

 أمَّا إذا لم يكن الضَّرر ملجئاً بأن كان خفيفاً أو يستطيع المرء تحمله بمشقة مقبولة؛ فلا يباح ارتكاب المحظورات.

وبناءً على هذا الشَّرط فقد أخطأ خالدٌ عندما ترك صلاة المغرب لأجل الاجتماع مع المدراء.

فلو خرج من الاجتماع وصلَّى المغرب لعشر دقائق ثم عاد؛ فما الضَّرر الذي سيلحق بهذا الاجتماع، نعم سيلحقه ضررٌ، لكن هذا الضَّرر بسيط محمول، لذلك لا يجوز أن يترك الفرض لأجل ضررٍ محمول.

الضَّابط الثَّاني: أن تكون الضَّرورة قائمة لا متوقعة.

قائمة فعلاً عند الإنسان لا وهماً، وأن يحصل خوف الهلاك أو التَّلف حقيقة،

وذلك بتحققٍ أو بغلبة ظنٍّ حسب التَّجارب، أمَّا إن كان الضَّرر مشكوكاً فيه أو متوهَّماً حدوثُه، فلا يباحُ ارتكابُ المحظور.

وبناءً على هذا الشَّرط ليس من الصَّواب فعلُ الدكتور عبد الله، لأن يرتكب المحظور الشرعي بقلع الضرس عند بعض المرضى لضرورة متوهمة لا قائمة.

ولئن كانت بعض أضراس العقل تسبب مشقة عند بعض الناس فإن بعضها الآخر لا يسبب مشقة.

ولو قلع الأضراس المسببة لمشقة حقيقة أو بغلبة ظن لكان فعله صواباً.

الضَّابط الثَّالث: أن لا يجد المضطر وسيلةً مباحة لدفع الضَّرر إلا ارتكاب المحظور.

إذا لحق بك ضرر كبير، ولا تملك أي طريقة مباحة لدفع هذا الضَّرر إلا ارتكاب الحرام، عندها يجوز لك ذلك، أمَّا إن وجدت طرقاً مباحة حَرُم ارتكاب الحرام.

من هنا لا يحلُّ لأحمد مع شركائه في المشفى القرض الرِّبوي في مسألتهم؛

لأنَّهم يملكون حلولاً مباحة أخرى، كأن يعلنوا افتتاح المشفى عدا هذا القسم

الذي يحتاج لهذه الأجهزة، حتَّى إذا رُزقوا الحلال اشتروا الأجهزة دون دخول في دائرة المحرم.

أو أن يدخلوا معهم شريكاً جديداً يدفع هذا المبلغ من المال.

فمهما استطعتَ أن تبحث عن حلول مباحة فافعل، ولا ترتكب الحرام، إلا إذا

أُغلِق باب الحلال دونك -حقيقة-.

الضَّابط الرَّابع: أن يقتصر في دفع الضَّرر على الحد الأدنى من المحظور.

فمن اضطر للأكل من ميتة بسبب انقطاعٍ في الطَّريق، وخاف على نفسه الهلكة

، فإنَّه يأكل ما يسدُّ رَمَقَه ويُعينه على الوصول إلى حيث يجد الحلال، فالضَّرورة تُقدَّر بقدرها.

ومثله مَن اضطر لكشف عورة أمام طبيب للعلاج فإنَّه يكشف مقدار الضَّرورة وحسب، ويقتصر في دفع الضَّرر على الحد الأدنى من المحظور.

قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة:173].

قال المفسرون: {غَيْرَ بَاغٍ}: أي غير باغٍ في أكله فوق حاجته.

{وَلَا عَادٍ}: هو آكل لحم الميتة ونحوها من المحرمات مع وجود غيرها من المباحات.

فالجائز عند الضَّرورة هو ما تندفع به الضَّرورة وحسب.

الضَّابط الخامس: أن لا يكون هذا المحظور هو القتل أو الزِّنا أو الكفر.

 فهذه الثَّلاثة لا يجوز ارتكابها بحالٍ مهما كانت الضَّرورة.   [ينظر: نظرية الضَّرورة الشَّرعية مقارنة مع القانون الوضعي، للدُّكتور وهبة الزُّحيلي].

أيُّها الإخوة:

هذا معنى (الضَّرورات تبيح المحظورات)، وهذه هي الضَّرورة في تعريفها وضوابطها. فليتنبه أحدنا وهو في مهنته أن يستخدم قولهم الضرورات تبيح المحظورات في غير محله.

المبدأ السابع: يشترط للتوبة من المال الحرام ردُّ الحقوق إلى أهلها أو

استحلالهم منها.

تعلمون أيها الإخوة أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وتعلمون أن المسلم ربما زلت قدمه فتاب أو حاد عن الصراط المستقيم فأناب، وتعلمون أَنَّ لِلتَّوْبَةِ

 أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ: الإقْلاَعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَالنَّدَمَ عَلَى فِعْلِهَا، وَالْعَزْمَ عَزْمًا جَازِمًا أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَى مِثْلِهَا أَبَدًا. وَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدَمِيٍّ، فَيُشْتَرَطُ فِيهَا رَدُّ الْمَظَالِمِ إِلَى أَهْلِهَا أَوْ تَحْصِيل الْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ.

     ومن هنا، فمن أدخل في ماله مالاً حراماً وجب عليه رده إلى صاحبه أو طلب مسامحته منه ليبرئه.

 فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ لعدم وصوله لصاحبه تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ، بنية الضمان له إن وجده.

وإن مات صاحب الحق رَدَّهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.

 وَإِنْ أعسر التائب نَوَى رَدَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْل اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةُ.

ومن أخذ مالاً حراماً من مالٍ عام رده إلى الجهة التي أخذه منها، فإن تعذر

عليه ذلك تصدق به.

ومن أخذ مالاً حراماً من خلق كثير يستحيل عليه معرفتهم والوصول إليهم

تصدق به في مصالح المسلمين.

     كل هذا في المال الحرام المأخوذ ظلماً من صاحبه، أما المال الحرام

المأخوذ من كسب خبيث كَمَنْ باع خَمْراً أَوْ خِنْزِيراً، أَوْ عاوض عَلَى زِنًى أَوْ فَاحِشَةٍ، فَهَذَا لَا يَجِبُ رَدُّ الْعِوَضِ عَلَى الدَّافِعِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَاسْتَوْفَى عِوَضَهُ الْمُحَرَّمَ... بل طَرِيقُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ، وَتَمَامُ التَّوْبَةِ بِالصَّدَقَةِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي. [ينظر روضة الطالبين للنووي، وزاد المعاد لابن القيم].

أيها الإخوة:

هنا تنتهي المبادئ العامة في فقه المهن التي أردت إعلامكم بها. لنبدأ في

الخطبة القادمة الحديث عن مهنة التعليم فقهها وآدابه.

 واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم شرعَ

 الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1636
تحميل ملفات
فيديو مصور