الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2016-10-10 الساعة 09:36:01
تربية أبناء الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين (3)
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

  

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ

عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]

قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: (قوا أهليكم نَارًا علّموهم وأدّبوهم) .


أخرج الترمذي بإسنادٍ مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ).

أيها الإخوة:

الحياة الزوجية محرابٌ من محاريبِ العبادة، وتربية الأبناء بابٌ من أبواب القرب إلى الله تعالى، ولهذا جاءت سلسلة– تربية الأبناء- لعلنا نفيد منها جميعاً في زيادة قربنا إلى الله ببرنا بأبنائنا ورعايتنا لهم.

  عنوان خطبة اليوم: تربية أبناء الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين (3)

وتتحدث خطبة اليوم عن أهم ما يمكن غرسه تربوياً في أبناء هذه المرحلة.

أقول – والله أعلم - أهم ما يغرس فيهم (الاستعداد للموت) .

 

 

أيها الإخوة:

 الموتُ خَلْقٌ من خَلْقِ اللهِ كما الحياة ، خَلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلوكم، وعنده تبدأ حياتُنا 

   الثانية، حياتنا الكبرى، حياتنا الأهم {يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]

 الموت مخاضٌ آخرُ لحياةٍ أُخرى، يُشبه مخاضَ الولادة الأول، لكنّك في المخاض الأوّل جئتَ إلى هنا، وفي المخاضِ الآخر -الموت- تذهبُ نحو الحياةِ الآخرةِ.

الموتُ لحظةٌ من لحظات الحياة، بل هو اللحظةُ الأهمّ، اللحظةُ الحاسمة!

لما قال الله تعالى في سورة آل عمران {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ

 يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]

 اِبتدأ جلّ جلالُه بذكر الموت {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ثم أتبعه بما سيحدث بعده {وَإِنَّمَا

 تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ثم عاد أخيراً ليذكرَ حقيقة البداية {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا

  مَتَاعُ الْغُرُورِ} وهو ما يسمى في فنون القصة بالخطف خلفاً، عندما تبدأ القصةُ بالعقدة ثم بحلها ثم تعودُ لبداية الأحداث.

 إن الموتَ هو اللحظةُ الحاسمةُ، هو العقدةُ -إنْ صحّ التعبير-، هو الانطلاقةُ الجديدة لحياة لنْ تنتهي.

أيّها الشباب، أيّها الفتيات، يا أبناء الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين:

 إنّ من أكبر قضايا التربية التي بها تستقيمُ حياتُكم الدنيا والآخرة.. الاستعدادَ للموت .

و لا يعني ذكرُ الموت والاستعداد له الانكفاءَ عن الحياة الدنيا.. أبداً، بل يعني عمارةَ الدنيا بما لا يخالفُ شرعَ الله؛ لتستقيمَ العمارةُ وليسعدَ الناسُ في الدنيا وينتقلون بعد الموت لسعادة الآخرة.

 لقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يُكثر من ذكر الموت والاستعداد له، ويقول لأصحابه: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يَعْنِي الْمَوْتَ [رواه الترمذي].

   فهل كان صلى الله عليه وسلم يتركُ الدنيا ويعتزلها، ألمْ يعمرها عبادةً وتشييداً وبناءً؟! ألمْ يؤسس مجتمعَ الخير ودولةَ الحق؟! 

  لقد كان الصحابةُ الكرام رضوان الله عليهم يقرؤون كلَّ يوم دعاءَ النوم الذي علّمهم

   إيّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم «بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» [البخاري] يذكرون بهذا الدعاء الموتَ والاستعدادَ له..

  فهل كان ذكرُ الموت يُثنيهم عن الانتشار في الأرض، والسعي على أرزاقهم، والمضي في فتوح البلدان والأمصار والعمل الدؤوب في الليل والنهار؟!

لقد وصف القرآنُ الكريم كرامَ الأنبياء بأنّهم يُكثرون من ذكر الموت، ويجتهدون في

  أنْ يكونوا أُولي قوةٍ في الخير ونشاط في العمل {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ

  أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } [ص: 45 - 47] قال المفسرون: (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَنْ يَذْكُرُوا الدَّارَ الْآخِرَةَ وَيَتَأَهَّبُوا لَهَا، وَيَرْغَبُوا فِيهَا

  وَيُرَغِّبُوا النَّاسَ فِيهَا) فلا يذهبُ ذكرُ الموت وما بعده عنهم، ومع هذا هم أُولو أيدي 

  أي: قوة ونشاط وبأس وعمل، وأُولي أبصار، أي: علم وبصيرة في الدين والدنيا،

قال البيضاوي: ( أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة).

  فلمْ يَكُنْ ذكرُ الموتِ والاستعدادُ له يوماً عائقاً عن ممارسة شؤون الحياة وإعمارها،

بل كان حافزاً لبذل الخير وبذره؛ ليكونَ خيراً في الدنيا وثواباً في الآخرة.

   إنّكم لتعلمونَ أيّها الإخوة أنّ نقشَ خاتمِ سيدّنا عمرَ مكتوبٌ عليه (كفى بالموت واعظاً يا عمر) وهو الخليفةُ الذي فتحَ اللهُ له الفتوح بالشام، والعراق، ومصر، ودوّن الدواوين في العطاء، وأرّخ التاريخ من الهجرة، وهو أولُّ من سُمّيَ أميرُ المؤمنين.

 فما كان ذكرُ الموت والاستعدادُ له عائقاً لعمرَ عن خوض الحياة الدنيا، بل كان حافزاً يحفزه للعمل في الخير ويدفعه إلى البر.

  ولعلّكم تعلمون أنّ الوليد بن عبد الملك  الخليفة الأموي كان نقشُ خاتمه: (يا وليد إنك ميت) .

   وقد امتدتْ في زمنه حدودُ الدولة العربية إلى بلاد الهند، فتركستان، فأطراف

  الصين،   شرقاً، وكان ولوعاً بالبناء والعمران، كتب إلى البلدان جميعِها بإصلاح

   الطرق وعمل الآبار، وهو أول من أحدث المستشفيات في الإسلام، وأقام بيوتاً ومنازلَ

 يأويْ إليها الغرباء، وهدم مسجدَ المدينة والبيوتَ المحيطة به، ثم بناه بناءً جديداً،

  وصفَّح الكعبةَ والميزابَ والأساطينَ في مكة، وبنى المسجدَ الأقصى في القدس، وبنى

   مسجد دمشق الكبير، المعروف بالجامع الأموي.. فهل كان ذكر الموت والاستعداد له عائقا له عن الحياة؟!

أيها الإخوة:

  الاستعدادُ للموت يكون بإخلاصِ العمل لله، والتوبةِ من المعاصي، والخروجِ من

     المظالم، وأداءِ الحقوق، وفعلِ الطاعات، واجتنابِ المحرمات، والأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكثرةِ ذكر الموت.

الاستعدادُ للموت يكون بأداءِ الفرائض، واجتنابِ المحارم، والاشتغالِ بالمكارم، ثمّ لا يبالي العبدُ أَوَقَعَ على الموتِ أمْ وقعَ الموتُ عليه.

الاستعدادُ للموت يكون ببرِ الوالدين، وصلة الأقربين، وبذلِ الخير للعالمين، فإنْ عاش عاش حميداً، وإن ماتَ ماتَ حميداً.

الاستعدادُ للموت بأنْ يكون العبدُ من ذنوبه تائباً، وعلى الخيرات مقيماً، فيَرِدَ على الله

   حبيباً كريماً، إنْ جاءه الموتُ صافحَه يقولُ: مرحباً بالموت.. حبيبٌ جاءَ على فاقة، وإنْ مدّ اللهُ في أجله زاد من عمله.

أيها الإخوة:

    لما كنتُ أقرأ في تراجم الكبار من العلماء والفقهاء والحفاظ والمحدثين، شدّتْني 

   عبارةٌ كانتْ تمرُّ في تراجمهم بين الحين والآخر تقول: لو قيل له إنّك تموت غداً ما زاد في عمله..!

   بمعنى أنه مستعدٌ للموت على كل حال، فلا هو مُعْتَدٍ على مال أحد يريد إعادتَه إليه قبل موته، ولا هو مقصرٌ في فريضةٍ يريد استدراكَها، ولا هو مقيم على لهو ولغوٍ يريد تركَه، وهذا ما يعنيه، أنْ تكونَ مستعداً للموت.

  جاء في تاريخ واسط: (قال شعيب بن حرب: لو قيل لمنصور بن زاذان إنّك تموتُ غداً ما كان عنده مزيد) .

و في سير أعلام النبلاء: (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَداً، مَا قَدِرَ أَنَّ يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئاً) .

   وفي أخبار أبي حنيفة: (قال الحسنُ بن بشر قَالَ: سَمِعتُ أَبَا الْأَحْوَص يحلفُ أنه لَو

  قيل لأبي حنيفَة إِنَّك تَمُوت إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام مَا كَانَ فِيهِ فضلُ شَيْءٍ يقدرُ أن يزِيدهُ على عمله الَّذِي كَانَ يعْمل) .

   وفي تاريخ بغداد: (قال مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن سام: لو قِيل لأبي يَحْيَى الناقد غداً تموت، ما ازداد فِي عمله).

ترى هل نستطيعُ أنْ نقولَ هذه الكلمة في حقك؟!

أيها الإخوة:

أيّها الشباب، أيّتها الفتيات، يا أبناء الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 18، 19]

 أ خرج ابْنُ مرْدَوَيْه عَن ابْن مَسْعُود: (قَالَ رجلٌ: يَا رَسُول الله: أَي الْمُؤمنِينَ أَكيس؟

  قَالَ: أَكْثَرهم للْمَوْت ذكراً وَأَحْسَنهمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا، ثمَّ تَلا رَسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

   {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} قلتُ: وَكَيف يُشْرَح صَدرُه للإِسلام؟

   قَالَ: هُوَ نورٌ يُقذف فِيهِ، إِنّ النُّورَ إِذا وَقع فِي الْقلب انْشَرَحَ لَهُ الصَّدْر وَانْفَسَحَ، قَالُوا

: يَا رَسُول الله، هَل لذَلِك من عَلامَةٍ يُعرف بهَا؟ قَالَ: نعم، الإِنابة إِلَى دَار الخلود والتجافي عَن دَار الْغرُور والاستعداد للْمَوْت قبل الْمَوْت) .

أ  همّ احتياجاتِ هذه المرحلة العمرية (العمل المناسب)، وأهم مخاطرها (الغفلة عن الله)، وأهم ما يمكن غرسُه تربوياً (الاستعدادُ للموت).

  وأنصحُكم بقراءة الكتاب الأخير من الجزء الأخير من كتاب (إحياء علوم الدين) للإمام الغزالي وقد عنونه بقوله: ( ذكر الموت وما بعده).

 قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسؤْولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فالإمامُ رَاعٍ،

   ومَسْؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، والرجلُ رَاعٍ في أهله، وهو مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمرأَةُ في

  بَيْتِ زَوجِها رَاعيةٌ، وهي مَسؤولَةٌ عن رَعيَّتِها،...والرجلُ في مالِ أبيهِ راعٍ، ومَسْؤولٌ عن رعيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وكُلُّكُم مَسؤولٌ عن رعيَّتِهِ» [البخاري ومسلم]. 

 

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1525
تحميل ملفات
فيديو مصور