الخميس 09 شوال 1445 - 18 أبريل 2024 , آخر تحديث : 2024-04-14 09:52:35 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2016-01-17 الساعة 11:06:43
مقدمات في تربية الأبناء
الدكتور محمد خير الشعال

الحمد لله، الحمد لله ثمَّ الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فهو المهتَدِ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مُرْشِداً، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، خيرُ نبيٍّ اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كَرِه الكافرون، ولو كَرِهَ المشركون، ولو كَرِهَ مَن كَرِه، اللَّهم صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.

أمَّا بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله تعالى، وأحثُّكم وإيَّاي على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]

قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: قوا أهليكم نَارًا علّموهم وأدّبوهم.

قال الْحَسَنُ: يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ.. فَيُعَلِّمُهُم الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَيُجَنِّبُهُم الْمَعَاصِيَ وَالْآثَامَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.

وقال قتادة: مروهم بطاعة الله تعالى، وانهوهم عن معصية الله.

قال السمرقندي: قوا أهليكم نَارًا أي بتعليمهم ما ينجيهم منها.

قال البيضاوي: قوا أَهْلِيكُمْ بالنصح والتأديب،

قال الزمخشري: قُوا أَنْفُسَكُمْ بترك المعاصي وفعل الطاعات وَأَهْلِيكُمْ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم. «رحم الله رجلا قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة»

أخرج الترمذي بإسناد مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ» .

أيها الإخوة:

الحياة الزوجية محراب من محاريب العبادة، وتربية الأبناء باب من أبواب القرب إلى الله تعالى، ولهذا سنبدأ سلسلة جديدة من الخطب عنوانها _ تربية الأبناء _ لعلنا نفيد منها جميعا في زيادة قربنا إلى الله ببرنا بأبنائنا ورعايتنا لهم.

وقد جرت عادتي في كل سلسلة من الخطب أن أبدأها بخطبة عنوانها – لماذا هذه السلسلة – أذكر فيها أهمية الموضوع المقدَّم والفوائد المرجوة منه، ولست أجدني هنا محتاجا للحديث عن ذلك إذ الناس كلهم متفقون على أهمية التربية وفوائدها، وإن كانوا في ممارسة التربية يختلفون بين مقصر ومجتهد.

سأقسم المراحل العمرية للأبناء من حين الولادة وحتى الرابعة والعشرين إلى ثمان مراحل، أجعل كل ثلاث سنوات من العمر مرحلة وأتناولها في خطبة مستقلة، فالمولود الجديد وحتى الثالثة من عمره مرحلة، وبين الثالثة والسادسة مرحلة وبين السادسة والتاسعة مرحلة وهكذا حتى الرابعة والعشرين.

سأتكلم في كل مرحلة عن احتياجاتها وعن بعض المخاطر فيها وعن الطريقة الأفضل للتعامل مع الابن فيها.

وإذا قلت في الخطب الأبناء فالمراد بهم الذكور والإناث مالم يكن الامر خاصاً بأحدهما، وإذا قلت الآباء فالمراد الآباء والأمهات مالم يكن الامر خاصا بأحدهما.

واسمحوا لي أن أبدأ السلسلة بمقدمات مهمة في تربية الأبناء :

أولها: تربية الأبناء فرضٌ على الوالدين:

إن الأحكام التكليفية عند جمهور العلماء خمسة: فرض، وسنة، ومباح، ومكروه، وحرام.

والفرض: ما يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، فصلاة الجمعة فرضٌ، وصلاة العصر فرضٌ، وصوم رمضان فرضٌ، وتربية الأبناء فرضٌ.

والدليل: قول الله تعالى: { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، قوا: فعل أمر اتصل بواو الجماعة، من: [وقى، يقي، قِ]، وكل أمرٍ في القرآن يقتضي الوجوب، مالم يصرفه صارف.

قال مقاتل والضحاك – وهما من علماء التفسير-: (حقٌ على المسلم أن يعلّم أهله ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه)، فكما وجب على الأب النفقةُ، وجب على الأب والأم بذلُ الجهد في تربية الأبناء.

قال ابن القيم: (وصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، فمن أهمل تربية ابنه ما ينفعه وتركه سدىً فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وتركِ تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً).

 سئل رجلٌ حُبِسَ ظلماً سنواتٍ طويلة: (ما أشد ما لقيت في السجن؟)، فقال: (فقدي لتربية أبنائي).

صحيح أن المربين قالوا: ميمات التربية أربعة: المنزل، والمسجد، والمدرسة، والمجتمع، لكنَّ آكد هذه الأربعة إنما هو: المنزل _ بركنيه: الأب والأم _.

يقول أحد المربين، وقد أمضى أكثرَ من أربعيـن سنة في التعليم والتربية والتدريس: (لا يوجد تربية بغير أسرة، وإذا تخلت الأسرة عن التربية فلا يوجد تربية على وجه الأرض).

فالتربية فرض على الوالدين، وهذه أول المقدمات المهمة جداً في التربية.

ثانيها: تربية الأبناء علم يحتاج إلى دراسة وسؤال أهل الاختصاص:

فليس الأب يولد عالماً بعلوم التربية وفنونها، وليست الأم لمجرد زواجها وإنجابها تصيرُ خبيرةً تربوية، بل التربية علمٌ يحتاج إلى دراسة وممارسة ومجالسة أهل الاختصاص وسؤالهم.

وما عليه أن يقرأ الوالدان كتاباً في التربية أو كتابين، وما عليه أن يحضرا مجالس علمٍ أو محاضرات أو دورات تُعْنّى بتربية الأبناء؟

تؤسس الحكومات كليات ومعاهد ومدارس للتربية، تخرج الاختصاصيين المؤهلين، وتحوي المكتبة العربية والعالمية آلاف الكتب والعناوين المعنية بالتربية.

وعلى سبيل المثال: تضم كلية التربية في جامعة دمشق اليوم ستةَ تخصصات على مستوى الإجازة، وثلاثة عشر اختصاصاً على مستوى الدراسات العليا، ويدرس الطالب لنيل الإجازة أربع سنوات أو خمس حسب تخصصه، ويدرس سنتين لنيل الماجستير، ثم يدرس سنوات لنيل الدكتوراه في التربية.

وهكذا فالتربية علم يحتاج إلى دراسة، وسؤال أهل الاختصاص.

وفي أثناء هذه السلسلة من الخطب ستمر بكم أسماءُ كتبٍ مفيدة في تربية الأبناء، لعلكم تقتنون واحداً منها أو أكثر تعينكم في تربية الأبناء.

بين يدي الآن كتاب مفيد في تربية الأبناء اسمه: منهج التربية النبوية للطفل، مؤلفه: محمد نور سويد، طبعته دار ابن كثير بدمشق، جاء الكتاب في أزيد من ثلاثين وأربعمائة صحيفة، ورجع فيه مؤلفه إلى أربعة عشر ومائة مرجع في علوم الشريعة والتربية.

قال في مقدمته – نقلاً عن أحد المفكرين -: (إنني أؤمن بقوة المعرفة، أؤمن بقوة الثقافة، ولكني أؤمن أكثر بقوة التربية).

ثالثها: تربية الأبناء طريق تحتاج إلى صبرٍ وأناة:

فغارس فسيلة التين ينتظر أربع سنوات حتى يأكل منها، وغارس فسيلة الزيتون ربما انتظر سنواتٍ عشر حتى يجني شيئاً من ثمارها.

 يبذر ويسقي ويرفع الأعشاب الضارة من حولها، ويقلب التربة لتهويتها، ويُقَوِّم المائل منها، ويصبر لها وعليها حتى يجني منها ما يحب.

إن تربية النبات تحتاج إلى صبر، فما بالكم بتربية الإنسان؟!

ولأن صناعة الإنسان المبدع الصالح من أدق الصناعات وأخطرِها، وجب أن تكون من أجهد الصناعات، وأكثرِها حاجة للصبر، فصناعة الإنسان هي صنعة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام-.

كتب أحد المربين يقول: (إنه لابدَّ من ارتياد الطريق الطويل، المجهد الشاق، البطيء الثمرة، المستنفد للطاقة... طريق التربية).

رابعها وأخيرها: تربية الأبناء مهمة تحتاج إلى معونة الله.

فقبل أن تبذل أي جهدٍ في التربية، وفي أثناء ذلك الجهد وبعده، عليك بالالتجاء إلى الله تعالى، والتضرع إليه أن يصلح أبناءك في الدنيا والآخرة.

ففي القرآن الكريم دعاءٌ كثيرٌ للأبناء: يضرع سيدنا إبراهيم  إلى الله تعالى بصلاح أولاده{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]

ويدعو سيدنا زكريا لذريته: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38]

          ويقول: { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6]

وفي سورة الفرقان في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]

-        كان بعض الآباء يكثر من صلاة الليل والسحر، والتضرع ففيهما والدعاء والالتجاء، فرآه ابنهُ، فقال: (أرآك يا أبتِ تكثر من صلاة الليل، فلِمّ؟). فأجاب الأب: (من أجلك يا ولدي).

فمهما استطعت أن تلجأ إلى الله تعالى وتجأر إليه بصلاح أولادك وأولاد المسلمين فافعل.

أيها الإخوة:

هذه مقدمات أربع مهمة جداً في تربية الأبناء:

1.      تربية الأبناء فرض على الوالدين.

2.      تربية الأبناء علم يحتاج إلى دراسة وسؤال أهل الاختصاص.

3.      تربية الأبناء طريق تحتاج إلى صبرٍ وأناة.

4.      تربية الأبناء مهمة تحتاج إلى معونة من الله تعالى.

وأحب أن أختم الخطبة بقصيدة لشاعر سوري اسمه عمر بهاء الدين الأميري من وفيات 1992، وهي قصيدة كتبها في الحنين إلى أولاده حينما سافروا وتركوه وحيدا في بيته، قال عباس محمود العقاد عنها  لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد لكانت هذه القصيدة في طليعته.. القصيدة بعنوان ( أب ):

 

أين الضجيج العذبُ والشغبُ

أين الطفولةُ في توقُّدِها

أين التشاكُسُ دونَما غَرَضٍ

أين التسابُقُ في مجاورتي

يَتَزاحمونَ على مُجالستِي

فنشيدُهُم "بابا" إذا فَرحوا

وهتافُهُم "بابا" إذا ابتَعدُوا

بالأمس كانوا ملء منزلنا

إني أراهم أينما التفتتْ

في كل ركنٍ منهم أثرٌ

في النافِذات زجَاجها حَطموا

في البابِ قد كسروا مَزَالجَهُ

في الصحنِ فيه بعضُ ما أكلُوا

في الشطرِ من تفاحةِ قضمُوا

إني أراهم حيث ما اتجهت

دمْعي الذي كتَّمْتُهُ جَلَدَاً

حتَّى إذا سارُوا وقد نَزَعُوا

ألفَيتُني كالطِفْل عاطِفَةً

قد يَعجَبُ العُذَّال من رجلٍ

هَيهْاتَ ما كل البُكا خورٌ

 

أين التدارسُ شابهُ اللعبُ

أين الدُّمى في الأرضِ والكُتُبُ

أين التشاكي ما لهُ سَبَبُ

شَغَفَاً إذا أكلوا وإنْ شربوا

والقُربِ مِنّيِ حيثُما انقَلَبوا

ووعيدُهُم "بابا" إذا غَضِبوا

ونَجِيُّهُم "بابا" إذا اقتَرَبوا

واليوم ويح اليوم قد ذهبوا

نفسي وقد سكنُوا وقد وثبُوا

وبكل زاوية لهم صخبُ

في الحائِط المَدْهونِ قد ثَقَبُوا

وعليه قد رَسَمُوا وقد كتَبُوا

في عُلبةِ الحلوى التي نَهبُوا

في فضلةِ الماءِ التي سكبُوا

عيني كأسراب القطا سربوا

لمًّا تباكَوا عندما ركِبوا

من أضلُعي قلباً بِهمْ يجبُ

فإذا بهِ كالغيثِ ينسكبُ

يَبْكي ولو لم أبكِ فالعَجَبُ

إِنّي وَبيِ عَزْمُ الرجالِ أبُ

 

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسؤْولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فالإمامُ رَاعٍ، ومَسْؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، والرجلُ رَاعٍ في أهله، وهو مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمرأَةُ في بَيْتِ زَوجِها رَاعيةٌ، وهي مَسؤولَةٌ عن رَعيَّتِها،...والرجلُ في مالِ أبيهِ راعٍ، ومَسْؤولٌ عن رعيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وكُلُّكُم مَسؤولٌ عن رعيَّتِهِ» [البخاري ومسلم]

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 2056
تحميل ملفات

هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *

أدخل الرمز : *