الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2015-12-13 الساعة 11:18:03
علاقة المسلم مع أرحامه
د. محمد علي الملا

خطبة الجمعة = د. محمد علي الملا=تاريخها 11-12-2015
عنوان الخطبة: " علاقة المسلم مع أرحامه
في زمن ثورة الاتصال والمواصلات التي قربت البعيد، وألغت المسافات بين الناس، وهدمت الحدود بين الدول، وتغلبت على البحار التي تفصل القارات؛ صار الإنسان يخاطب من يشاء، في أي وقت يشاء، في أي بقعة من الأرض، يخاطبه وجهًا لوجه صوتًا وصورة، وكأنه يجلس بجواره، بل يجتمع عدد من الناس من قارات شتى، وفي دول متنائية، ويتحدثون في شأنهم وكأنهم في غرفة واحدة، تحويهم طاولة واحدة، فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم، وسبحان من سخر له ما في الأرض، وفتح له الآفاق؛ ليقيم دينه في الأرض: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصَّفات:96].
وكلما زادت سبل الصلة، وتيسرت مؤونتها؛ تأكدت فريضتها، وتحتم وجوبها، وانقطع العذر في قطيعتها، فكان الظن بالناس أداءها؛ لفرضيتها ولسهولة أدائها، ولكن واقع الناس على العكس من ذلك، فكلما زادت وسائل الاتصال والوصال بعدت المسافة بين الأرحام والقرابات. ولقد كان الناس من قبل ينتقدون أنفسهم إن تأخروا عن صلة قريب جمعة أو جمعتين، ثم تساهلوا في الشهر والشهرين، وبلغوا الآن حولاً أو حولين، لا يرى القريب قريبه إلا إن جمعهم عيد أو عرس أو جنازة، ثم تثاقلوا عن إجابة دعوات الأعراس، وشهود جنائز قراباتهم، فكأنهم يجرون إليها جرًّا، ولولا الخوف من ألسن الناس وعيبهم لما حضروا الأعراس، ولا شهدوا الجنائز.
إن أمر الصلة عظيم، وشأنها عند الله تعالى كبير، فهي معلقة بالعرش تدعو لمن وصلها، وعلى من قطعها، وتشهد للواصل وعلى القاطع يوم القيامة، وهي سبب طول العمر أو بركته، وسبب نماء الرزق وحصوله، وكان الواجب على الناس لما فتح الله تعالى عليهم وسائل الاتصال والوصال أن يكونوا أكثر صلة لأرحامهم، ومعرفة بأحوال قرابتهم، ولكن جهل كثير من الناس بأهمية الصلة، وعدم علمهم بحقيقتها ووسائلها جعلهم يقطعون كثيرًا من أرحامهم؛ فهم يظنون أن الصلة لا تكون إلا بالزيارة، ولا صلة في غيرها، فسدت أبواب من الصلة كثيرة بسبب هذا الفهم الخطأ.
إن أعظم الصلة وأنفعها وأخلصها: الصلة بالدعاء؛ وخاصة ما كان بظهر الغيب؛ فإنه ينفع الداعي بدعاء الملك له، وينفع المدعو له.
ومن الصلة: قصد الرحم بالزيارة في بيته أو عمله، فإن كان في غير بلده فشد رحله لزيارته كان ذلك أعظم أجرًا، وأشد أثرًا في نفس رحمه، فيفرح به، ويعلم منزلته عنده.
ومن الصلة: مهاتفته بين حين وآخر، أو مواصلته بالرسائل التي أصبحت بالمجان مع تطور وسائل الاتصال، فيسلم عليه ويسأل عن حاله وأهله وولده، ويشعره باهتمامه به، ويقر له بتقصيره في حقه.
ومن الصلة: الوقوف معه في مصابه، وتخفيف آلامه، والفرح بخير حازه، وتهنئته به، وقد جعل النبي -عليه الصلاة والسلام- الدية على عاقلة الرجل القاتل، وهم عصباته من الذكور. ورب كلمة طيبة يقولها شخص لذي رحم مصاب، فيخفف بها مصابه، ويزيل همه، ويكون خير معين له في شدته.
ومن الصلة: عيادته إن مرض، وكل ما ورد من ثواب عيادة المريض فهو في ذي الرحم آكد وأبلغ.
وشهود جنازته صلة له بعد وفاته، وهو دليل على محبته ووفائه، ولا سيما إذا كان خالص النية، حسن القصد، يحضرها يريد الأجر لا خوفًا من النقد والثلب.
والصلة بالمال أو الهدية هي أشهر ما جاء من الصلة في النصوص، وهي صلة تزيل إحن الصدور، وتغرس المحبة في القلوب، وتقطع الطريق على نقلة السوء من النمامين والكذابين؛ ذلك أن الإحسان يعمل عمله في القلوب، وما استعبد إنسان بمثل الإحسان، فإن كان رحمه فقيرًا كانت له صدقة وصلة، وإن كان غنيًا كانت له هدية وصلة.
وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "الصَّدَقَةُ على الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَالصَّدَقَةُ على ذي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ". رواه أهل السنن إلا أبا داود، من حديث سليمان بن عامر الضبي -رضي الله عنه-.
ولما أراد أبو طلحة -رضي الله عنه- أن يتصدق ببستانه قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: "سمعت ما قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبِينَ، فقال أبو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أبو طَلْحَةَ في أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ". رواه الشيخان.
ومما يؤكد هذا المعنى حديث أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ... فإذا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إلى أَهْلِهَا؛ فإن لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا، أو قال: ذِمَّةً وَصِهْرًا". رواه مسلم.
فأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم. وتأملوا كيف أن النبي -عليه الصلاة والسلام- اعتبر رحم هاجر -عليها السلام- مع أن بينه وبينها في النسب أكثر من عشرين جدًّا.
وقد رتب الله تعالى إنفاق الرجل فجعل قرابته بعد والديه في الإنفاق وقبل اليتامى والمساكين وابن السبيل؛ ما يدل على أهمية القرابة وصلتهم: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة:215]، وفي آية أخرى: (وَآَتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ) [البقرة:177]، وكذلك في الوصية: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ) [البقرة:181
وحين يقصد الرجل بالصلة قريبًا له يناصبه العداء، ويسعى عليه بالسوء، فقد بلغ الغاية في الصلة، وحقق الإخلاص فيها؛ فصلته عن ديانة وتقوى، وإلا فإن كثيرًا من الناس يأنسون بقراباتهم فيصلونهم، وقد جاء في حديث أُمِّ كُلْثُومِ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ". صححه ابن خزيمة والحاكم.
وذو الرحم الكاشح هو المبغض المعادي؛ قال ابن العربي -رحمه الله تعالى-: "ولا شك أن الحنو على القرابة أبلغ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح أوقع في الإخلاص".

إن اختلاف الطباع والعقول وطرائق التفكير، والتباين في المعرفة والاهتمامات بين القرابة، أسباب تجعل أناسًا منهم لا يحتملون قرابتهم، ولا يحبون مجالستهم، ولا يأنسون بالحديث معهم؛ لبعد ما بينهم، لكن ليس للمسلم اختيارٌ في ذلك؛ فإنه إن اختار جلساءه وزملاءه فلا خيار له في قرابته، فعليه أن يحتمل جهلهم، ولا يغتر بمعرفته عليهم، ويجتهد في صلتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وأحيانًا تكون قطيعة الرحم بأسباب فتنٍ بين القرابات سعى بها واشٍ بينهم يوقد نارها لغرضٍ في نفسه؛ فاستحوذ عليهم لضعف عقولهم، وسوء ظنونهم، وعدم قدرتهم على صد الوشاة عنهم، وإلا فمن نقل لك نقل عنك، أو تكون القطيعة بسبب إرثٍ اختلفوا في قسمته، واتهم بعضهم بعضًا بالاستئثار به، أو بسبب عداواتٍ قديمةٍ ورثوها عن آبائهم. وكل أولئك يجب على المؤمن -بعظيم حق الرحم- أن يتجاوزها، ولا يجعلها عوائق عن واجب الصلة، ولا يقدر على ذلك إلا الأقوياء من الناس، الذين يجعلون رضا الله تعالى فوق أي اعتبارٍ مهما كان.
ومن الخذلان العظيم، والإثم المبين، أن يُبتلى الرجل بقطيعة أقرب الناس إليه من إخوانه وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته ثم يعدي هذه الكبيرة من الذنوب لزوجه وولده فيأمرهم بها، ويقصرهم عليها، ويعاقبهم على صلتهم لو وصلوا أرحامهم، فيحمل وزره مع وزرهم، ويكون داعيةً للإثم والعدوان والبغي.
إن النفوس الكبيرة هي التي تحتمل أذى القرابة، ولا تحمل في دواخلها شيئًا عليهم مهما فعلوا، وتؤدي حقوقهم ولو قوبلت على إحسانها بالإساءة، وعلى صلتها بالقطيعة؛ فإن مطلوب المؤمن رضا الله تعالى لا رضا خلقه، وغايته أن يكون عبدًا لله تعالى وليس متبعًا لما تهوى نفسه.
ومن تمام التوفيق أن يستفيد المؤمن من إجازة أتيحت له، أو فراغ يجده فيقضيه في صلة رحمه، ويحتسب أجر ذلك ومثوبته.

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1304
تحميل ملفات

هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *

أدخل الرمز : *